أحدثت العمليات الفدائية التي وقعت مؤخرًا في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة إرباكًا كبيرًا في منظومة أمن الاحتلال، وشكلت بالنظر إلى طبيعة مُنَفِّذيها ونتائجها صدمةً كبيرةً لدى حكومة الاحتلال، ما دفع رئيس الحكومة نفتالي بينيت إلى دعوة كل المستوطنين الصهاينة في فلسطين المحتلة إلى حمل السلاح طوال الوقت، وإصدار جيش الاحتلال تعليمات لجميع جنوده بحظر تجوالهم منفردين خارج المواقع العسكرية، وحظر إجراء تدريبات عسكرية داخل البلدات ذات الكثافة الفلسطينية في الداخل المحتل، وإلزام جنود الاحتلال بحمل أسلحتهم بعد انتهاء الدوام وعودتهم إلى منازلهم.
حالة الصدمة التي يعيشها كيان الاحتلال هذه الأيام ناشئة بسبب تنامي شعور الجمهور الصهيوني بفقدان الأمن الشخصي، وعدم توقع أجهزة الاحتلال الأمنية مشاركة فلسطينيي الداخل المحتل في المقاومة الفلسطينية، وعدم استعدادها لهذا الخيار المرعب بالنسبة للاحتلال، وهذا ما حدث فعليًّا في عملية بئر السبع التي نفذها مقاوِم فلسطيني من النقب المحتل، وعملية الخضيرة التي نفذها مقاومان من أم الفحم في الداخل المحتل، لذلك حرص الاحتلال على اتهام المقاومين من الداخل المحتل بالانتماء إلى "داعش" كي لا يصبحوا أيقونة للنضال الفلسطيني، ومصدر إلهام للشباب الفلسطيني في الداخل المحتل، خاصة مع وجود أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني في الداخل المحتل ما زالوا يتمسكون بهويتهم العربية، وهم الأقدر على إحداث إرباك كبير داخل كيان الاحتلال حال مشاركتهم في المقاومة المسلحة.
تعتمد إستراتيجية الاحتلال طيلة العقود الماضية على سياسة تقسيم الفلسطينيين إلى تجمعات سكانية منفصلة، وكانتونات جغرافية منعزلة بحسب أماكن وجودهم، بما يتيح للاحتلال الاستفراد بكل تجمع فلسطيني على حِدَة، والتعامل معه بأسلوب خاص بمنأى عن الساحات الأخرى، فالقدس يعمل الاحتلال على التمسك بها عاصمة لكيانه المزعوم، ويقوم بإجراءات تهويدية متواصلة، لتغيير هويتها التاريخية، وإحداث تغييرات ديموغرافية تجعلها بيئة طاردة لأهلها الفلسطينيين بفعل سياسات الاحتلال، وغزة التي أرهقت الاحتلال وكان يتمنى رئيس وزراء حكومة الاحتلال المجحوم "إسحاق رابين" أن يبتلعها البحر، يتعامل معها الاحتلال بأسلوب الحصار المشدد والحرمان من أدنى مقومات الحياة، بما يدفعها للبحث عن قوت يومها والتغافل عن جرائم الاحتلال بحق الضفة والقدس، بينما الضفة التي تسيطر عليها شكليًّا السلطة الفلسطينية، حرص الاحتلال على تفتيتها جغرافيًا من خلال مئات الحواجز العسكرية، وعشرات البؤر الاستيطانية التي تحيط بمدنها وبلداتها الفلسطينية، إضافة إلى اعتماد أسلوب المغريات الاقتصادية، في ظل التعاون الأمني العميق بين قادة السلطة والاحتلال، بما يوفر للصهاينة توسّعًا استيطانيًّا هادئًا، واحتلالًا ناعمًا هو الأرخص في العالم. أما فلسطينيو الداخل المحتل فيعمد الاحتلال إلى محاولة تدجينهم، ودفعهم لنسيان جذورهم العربية، وانتمائهم الفلسطيني، والقبول بالعيش مواطنين من الدرجة الثانية تحت راية المشروع الصهيوني، أما اللاجئون الفلسطينيون خارج فلسطين المحتلة فيعمد الاحتلال إلى التضييق عليهم لدفعهم بقبول التوطين في أماكن وجودهم والتنازل عن حق العودة إلى فلسطين، ويستخدم الاحتلال معهم أسلوب الملاحقة والتضييق في المعيشة من خلال علاقاته مع النظم العربية والإقليمية، أو القيام باغتيالهم في حال شاركوا بمقاومة الاحتلال.
واليوم ومع دخول شهر رمضان المبارك يخشى الاحتلال من تصاعد المواجهة مع الفلسطينيين في مختلف الساحات التي لطالما حرص على إبقائها متباعدة وغير مُوَحّدة، وفي ذلك يرى مدير معهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب "أودي ديكل" وهو عميد عسكري ترأس سابقًا مديرية التخطيط في جيش الاحتلال، أن "إسرائيل" باتت تواجه نظامًا يوحد ساحات الصراع، القدس، والضفة، وغزة، والداخل المحتل، وينبغي عليها أن تعمل قدر الإمكان لبناء حاجز بين الساحات وتحييد العلاقات بينها".
وفي المقابل تعتمد المقاومة الفلسطينية أسلوب توحيد الساحات الفلسطينية في مواجهة الاحتلال، لذلك رأينا الإعلام الفلسطيني المقاوِم في غزة والخارج يُسخِّر طاقاته وأدواته المتاحة لدعم صمود أهلنا في الضفة والقدس والداخل المحتل في مواجهة مخططات الاحتلال، كما يتهم الاحتلال المقاومة الفلسطينية في غزة والخارج بأنها تقف خلف العديد من العمليات البطولية في الضفة والقدس، وأعلن مرارًا عن مصادرة أموال تم تحويلها إلى الضفة بهدف دعم أنشطة المقاومة الفلسطينية، بل ذهبت قوى المقاومة الفلسطينية أبعد من ذلك حين أعلنت عن تشكيل هيئة وطنية لدعم فلسطينيي الداخل، بما يؤكد أن توحيد ساحات الصراع في مواجهة الاحتلال هو خيار إستراتيجي لدى قوى المقاومة الفلسطينية.
باعتقادي أن توحيد ساحات الصراع ورغم كونه خطوة مهمة نحو تحرير فلسطين وهزيمة الكيان الصهيوني، فإنه يواجه العديد من التحديات، وفي مقدمتها محاولات الاحتلال المستمرة لبث الفرقة والخلاف بين الساحات الفلسطينية، وليس أدل على ذلك من تهديدات الاحتلال للسلطة الفلسطينية وتدخله مرارًا لمنع إنهاء الانقسام بين الضفة وغزة، كما أنه يواجه عائقًا خارج فلسطين المحتلة، لكون العديد من النظم العربية والإقليمية حريصة على منع اللاجئين الفلسطينيين من القيام بأي فعل مقاوِم انطلاقًا من أراضيها ضد كيان الاحتلال، كما أن التحدي الداخلي يُعد عائقًا كبيرًا بالنظر إلى ارتباط بعض الفلسطينيين وجدانيًّا بأوهام تفوّق كيان الاحتلال، وقبولهم العيش أُجَرَاء لصالح هيمنة المشروع الصهيوني، وإجهاضهم أي فِعل مقاوِم للاحتلال، بل وإعلائهم الصوت دون خجل بضرورة فصل الساحات الفلسطينية عن بعضها البعض لصالح ديمومة الاحتلال.