جاء الفيلم في سياق مرور عام على وفاة جبل فلسطين عمر البرغوثي، الفيلم يريد أن يسلّط الضوء في عجالة سريعة قوامها ثمانٍ وأربعون دقيقة، وماذا تراها هذه الهنيهة من الوقت أن ترقى لمستوى هذه الشخصية الفذة وهذا القائد الكبير وأن تغطي المساحات الشاسعة التي احتوتها سيرة حياته الحافلة بالجهاد، والمشتبكة على مدار قرابة سبعة عقود من الزمن الفلسطيني الصعب.
لذلك كان لهذا الفيلم أن يركِّز على أهم المفاصل الحساسة في حياة عمر وأن يعرض لنا أشدّ لحظات حياته قسوة وألما وأعظمها إشراقا وروعة، وقد جاءت على خط درامي ساخن من خلالها تتجلّى جوانب شخصية هذا البطل وأهم ما يميّزه عن غيره، وكان منها قدرة البيت الفلسطيني المجاهد على صناعة الحريّة والأحرار وكيف يتخرّج فيها الأبطال وأصحاب الروح العالية وذوو العنفوان القويّ القادر على مواجهة غطرسة المحتلّ بكلّ قوة واقتدار، لقد شكل هذا البيت الفلسطيني كليّة عسكرية تتقن صناعة الروح القتالية العالية ومدرسة تربوية تتقن بناء الذات الثورية.
ومن تجليات هذه الشخصية الفريدة التي أظهرها الفيلم القدرة العالية على الحوار القويّ العزيز الحرّ والتي تبدو بكل وضوح في كلّ محطات المواجهة مع الآخر العدوّ، كانت الهزيمة لهم عنوان هذه المحطات وكان الانتصار الذكيّ هو حصيلة الموقف لصالح عمر، لم يكن ليحني رأسه أو يهادن أو يتراجع قيد أنملة بل هو الشهور الدائم ليس فقط في النديّة وإنما الشعور بالاستعلاء وأنه كان الأعلى والأكرم على حين هم في موقع الأخسّ والأحقر.
والفيلم يظهر قوة روحه وهو في أشدّ درجات المرض، وقلبه لا يكاد يحمل همّه الكبير، يدير معركتين ويشارك فيهما بكلّ قوة واستبسال، معركة جبهة جسده المريض ومعركة إدارة جبهة الإضراب المفتوح عن الطعام، يستلّ سيفه ويكافح حتى الرمق الأخير.
ويظهر الفيلم تجليات هذه الشخصية في السجن وكيف كانت تحوّل السجن إلى معقل للأحرار، وبالتحديد يتعرّض لمعاناة الأسرى المرضى والجريمة المفتوحة التي تجعل من السجن مدفنا للأحياء، وليمارس عليهم السجان كلّ طقوس الإهمال الطبي المبرمج والمتعمّد.
ويظهر الفيلم أعلى درجات تجليات هذه الشخصية عندما نالوا منه بقتل ولده صالح وكيف واجه الحرب النفسية التي أردوا منها أن يكسروا إرادته ويدفعوه للانهيار النفسي فما كان منه إلا أن قلب السحر على الساحر فأصابهم في مقتل وضرب روحهم العفنة في أعماقها، لم ينالوا منه لحظة انكسار وضعف بل زاده هذا الابتلاء قوة وعنفوانا ورباطة جأش وعزة نفس.
وكان له أيضا تجلياته العظيمة عندما نال منهم ابنه عاصم وسطّر صفحة مجيدة في سجل الجهاد الفلسطيني العظيم، رأيت في وجهه ضياء مخزون العزّة الذي تراكم في صدره طيلة حياته المجيدة فجاءت هذه البطولة لتظهر تجلياتها بأبهى صورها المجيدة.
وكان للمرأة وجهادها مساحة كبيرة في الفيلم تجلّت في شخصية زوجة عمر، لم تكن مجرد سند وثبات ومخزون صبر وإنما كانت الشريكة الكاملة في حمل همّ الوطن، كانت تمثّل العقيدة القتالية الحرّة العزيزة السامقة، لم تكن مجرّد المرأة التي تقف خلف عظيمها وإنما كانت من تقف معه في خندق واحد، تارة يتقدّمها وتارة أخرى تتقدّمه.
الفيلم موجز سريع لا يعطي هذه العائلة حقّها وإنما هو مجرّد حلقة في مسلسل طويل ينتظر من يحمل على عاتقه متابعة الطريق، بدأناه برواية فرحة (أم عمر) التي تنتظر أيضا تحويلها إلى دراما تجسّد عظمة الأم الفلسطينية، ثم جاء هذا الفيلم الموجز السريع عن حياة قامة عالية لا يغطيها فيلم ولا رواية ولكن ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه.
(ملاحظة: سيكون افتتاح الفيلم وعرضه الأول في قاعة الهلال الأحمر مدينة البيرة الاثنين القادم الساعة الخامسة).