العربي الجديد
يثير موقف الرئيس محمود عباس من قطاع غزة وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، علامات استغرابٍ وتساؤلٍ كثيرة، لا تقلّ عن التي أثارها تقارب الحركة المفاجئ والسريع مع النظام المصري، والتفاهمات التي عقدتها مع ما يُسمّى التيار الإصلاحي في حركة فتح، الذي يتزعّمه القيادي المفصول من الحركة، محمد دحلان. تدور هذه التساؤلات كلها في حلقة واحدة لا تنفصل عراها عن المشهد الخليجي والتحركات الإقليمية التي بات واضحًا أنّ الرئيس محمود عباس سيكون أول ضحاياها، إذا ما استمر في سياساته الحالية، وموقفه من حصار قطاع غزة، وفرض مزيدٍ من العقوبات عليه.
واضحٌ أنّ الرئيس محمود عباس وقع في شَرَك نُصب له بإحكام، وقادته قدماه إليه بخطى ثابتة، بعد أن تراجعت قدرته على رؤية الأوليات، وانحسر طيف الألوان الممتد أمامه إلى لونٍ واحد، يتمثّل في التمسك بالمبادرة الأميركية التي تسعى إلى ما عُرف باسم "صفقة القرن"، القائمة على تطبيع العلاقات العربية مع (إسرائيل)، وجعل الحل مع الفلسطينيين نتاج هذا التطبيع، ووفق شروطه الإسرائيلية.
ظنّ الرئيس محمود عباس أنّ من شروط قبوله في هذا المسار فك جميع الصلات والروابط مع حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة، وفرض العقوبات عليها التي كانت بمنزلة عقوبات حقيقية على السكان، تمثّلت في خصم الرواتب، ووقف إمداد المحروقات، ووقف التحويلات الطبية للأهالي، وصولًا إلى التهديد بإعلان غزة إقليمًا متمردًا.
اعتقد الرئيس محمود عباس أنّه بهذه الإجراءات سيحصل على شهادة اعتماد من دول التحالف الرباعي بأنّه خصمٌ لدود للإسلام السياسي، وأنّه يسير في المسار ذاته الذي اتُّفق عليه، ودار الجدل حوله في القمة العربية الإسلامية مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في الرياض، واعتقد أنّ هذا سيؤهله للقبول الأميركي باعتباره طرفًا في أي حل متوهم مقبل، وجاءت الحملة أخيرا على قطر، وما رافقها من اتهاماتٍ علنية لوزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، لحركة حماس بأنّها تنظيم إرهابي، ومطالبة قطر بطرد قادة الحركة من أراضيها، لتزيده قناعة بأنّه يسير على الطريق الصحيح، وأنّه منضم حتمًا للمحور المنتصر.
من المفيد التذكير بأنّ إجراءات عباس أخيرا جاءت عقب فترة تقدّمت فيها علاقاته مع "حماس" التي وافقت، بعد وساطةٍ تركيةٍ – قطرية، على السماح لممثلي قطاع غزة في حركة فتح بالانضمام إلى المؤتمر السابع للحركة في رام الله، وشاركت فيه "حماس" بكلمة من رئيس مكتبها السياسي، خالد مشعل، ما شكّل اعترافًا ضمنيًا بالشرعية الفتحاوية للرئيس عباس، وتكرّس لاحقًا بشرعية فلسطينية في مؤتمر الفصائل في بيروت، بحضور حركتي حماس والجهاد وفصائل دمشق، والذي عُقد بهدف البحث في تشكيل المجلس الوطني، وإعادة إحياء منظمة التحرير. وبذلك، نجح الرئيس محمود عباس في إفشال مضمون بيان الرباعية العربية الذي استهدف إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وفرض محمد دحلان في المشهد السياسي، وتهيئته خليفةً منتظرا يحظى برعاية من أطرافٍ عربية ودولية.
لم يلتفت الرئيس عباس إلى هذه المؤشرات الإيجابية، ولا إلى المؤشرات الجديدة في وثيقة حركة حماس التي أعلنتها في الأول من مايو/ أيار الماضي في الدوحة، والتي تمهّد الطريق للقاء على هدف مرحلي (لا يعتقد الكاتب أنّه واقعي)، لكنّ عباس طالما سعى إليه أو إلى أجزاء مختزلة منه. وسار في اتجاهٍ معاكسٍ للمؤشرات الإيجابية كلها، قوامه التشدّد والتضييق على حركة حماس، ومعاقبة قطاع غزة كله. ولم ينتبه إلى أنّه، بتصرفاته هذه، أحكم الشَرَك الذي باتت حلقاته تُغلق من حوله.
معلوم أنّ للنظام المصري مصلحة في ضبط الحدود مع قطاع غزة، وإقفال البوابة الخلفية لسيناء. ولذلك طريقان لا ثالث لهما، فإمّا الاستمرار في محاصرة القطاع المستمرة منذ أكثر من عشرة أعوام، وصولًا إلى حربٍ كانت مرجحة ضد المقاومة فيه، وبغطاء مصري وعربي، وهو خيار تورّطت فيه السلطة الفلسطينية حتى أذنيها صمتًا وتواطؤًا، وساهم النظام المصري، منذ اجتياح 2014، في إحكام حلقاته، وعدم تمكين المقاومة من حصد نتائج سياسية لصمودها أمام آلة القتل الصهيونية. لكنّ قرار الحرب ليس سهلًا، ونتائجه ليست مضمونة، بدليل نتائج الاجتياحات المتكرّرة للقطاع، كما أنّ انعكاساته على المنطقة كلها، وعلى "صفقة القرن" تغدو خارج إطار القدرة على التنبؤ بنتائجها.
كان ممكنًا أن يكون هذا الخيار هو المرجح، لو نجحت مساعي الرباعية العربية الأولى في تغيير المشهد الفلسطيني، ولو لم تتوالَ تطورات المشهد الخليجي الذي وضع في قائمة أولوياته، عبر حصار قطر، التلويح بخطر الإسلام السياسي، وربطه بالإرهاب، ومطالبة قطر بطرد قادة "حماس" منها بعد أن ألصقت تهمة الإرهاب فيها.
كانت هذه سياسة العصا التي استُخدم فيها التلويح بالحرب والحصار والتجويع والكهرباء والرئيس عباس وتصريحات عادل الجبير، وهنا نبتت الجزرة فجأة، وتفتّحت الأذهان على حلولٍ لم تُطرح طوال عشرة أعوام من الحصار. وقود مصري يصل إلى غزة ردّا على إجراءات عباس المدعومة إسرائيليًا بوقف توريد الوقود، منطقة آمنة وعازلة تنفذها "حماس" على طول الشريط الحدودي مع مصر، بتوجيه مصري لمنع التسلل من سيناء وإليها، وعود بمعبر تجاري لمرور البضائع، بدلًا من المعبر الإسرائيلي الذي تذهب وارداته إلى السلطة الفلسطينية عبر نظام المقاصة الإسرائيلي- الفلسطيني، وستُستخدم واردات المعبر الجديد لدفع رواتب الموظفين، مصالحة اجتماعية ودفع ديّات الذين قضوا في حوادث الانقسام، يمولها محمد دحلان عبر مصادره العربية، ووعد بفتح معبر رفح على مدار الساعة خلال شهرين، لعبور الأشخاص الذين حُرموا من مغادرة القطاع، وعودة دحلان وأنصاره إلى القطاع، وإلى المشهد السياسي الفلسطيني.
يهدف هذا الاتفاق إلى تحييد حركة حماس، وإبعادها عن جماعة الإخوان المسلمين التي تشهد تيارات واتجاهات متباينة ومتنوعة. ربما تُبعد "حماس" شبح الحرب عن قطاع غزة المستنزف إلى حين، كما قد تنجح في تخفيف أعباء الحصار، لكن قد يكون عليها أن تدفع ثمنًا لذلك، عبر شراكة سياسية تتعمق أو تطفو على السطح مع خصوم الأمس القريب.
لن يفيد القول إنّ الأمن في غزة سيبقى في يد "حماس"، وإنّها المكلّفة به، وهي نقطةٌ غابت عن ذهن الرئيس عباس في جميع حوارات المصالحة، حين كان يصرّ على أن لا سلاح إلا سلاح السلطة. تحوّل المقاومة إلى شرطي يُضعفها ولا يقويها، والسلاح الذي لا يُستخدم يصدأ في المخازن والأنفاق، وبالأساس فإنّ قرار المقاومة سياسي، قد يصبح محكومًا بشركاء محليين أو إقليميين.
سيعود دحلان إلى المشهد السياسي الفلسطيني عبر تفاهماته مع حركة حماس، وسينتظر مآلات السلطة في رام الله المحكومة بالتطورات الإقليمية والدولية ورغبات العدو الصهيوني، كما أنّ جزءًا من مصيرها يتوقف على إرادة القدر، وتحكّم رب العالمين بأرواح البشر. واستمرار شهر العسل الذي لم يبدأ بعد بين دحلان و"حماس" مرهون بتطورات مختلفة، قد تُسيّر الأمور باتجاه مزيدٍ من التفاهم، أو عودة إلى الصراع. والحاضنة المصرية لهذه العلاقة لها ظروفها ورغباتها وتحالفاتها التي قد تؤثر على هذا المسار.
وقع الرئيس محمود عباس في الشَرَك، وإجراءاته العقابية عجّلت في حصول هذا التفاهم، وحلفاؤه المفترضون الذين دفعوه وحرّضوه باتجاه التشدد مع "حماس" هم أول من التفّوا عليه، وسياساته الخاطئة أسهمت في دفع أنصاره باتجاه دحلان، ولعلّه أضاع الفرصة الأخيرة، عندما لم يلتقط إشاراتٍ وردت في خطاب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، هدفت إلى إيجاد نوعٍ من التوازن بين علاقات مجبرة عليها ولا تعرف نتائجها، وآفاقٍ قد تُفتح مع فرقاء آخرين، بينهم السلطة الفلسطينية، ما يتيح لها بعضًا من المناورة في الأيام المقبلة.