لم يعد مقبولًا انتظار ما يُسمى إحياء منظمة التحرير الفلسطينية، أو إعادة بنائها، أو تفعيلها، كما يحلو لبعضهم القول، وجميعها تعبيراتٌ تؤكّد عجزها. والأدهى أنها تحظى بالقبول ممن أوصل المنظمة إلى هذا الحال، أو من اعترض عليها، إذ ثمّة اتفاقٌ على مآلها البائس من الأطراف كلها. يكفي للدلالة على ذلك أن نُذكّر بأن مجلسها الوطني، وبحسب النظام الأساسي، يجب أن يعقد جلسة في كل عام، وبالفعل عقد عشرين جلسة منذ تأسيسه في القدس عام 1964 وحتى 1991، حين عقد جلسته العشرين في الجزائر. أما في ظل السلطة الفلسطينية، وخلال 31 عامًا، فلم نشهد سوى جلسات ثلاث؛ الأولى في غزة، في 1996، لتعديل الميثاق الوطني، استجابة لمتطلبات اتفاق أوسلو. والثانية في رام الله عام 2009، في جلسة خاصة استثنائية ضمّت بعض أعضاء المجلس المركزي، ومن حضر من أعضاء المجلس الوطني لاستكمال أعضاء اللجنة التنفيذية، بعد أن شغرت مقاعدها وفقدت نصابها القانوني. والأخيرة في 2018، حين فوّض المجلس الوطني في رام الله صلاحياته للمجلس المركزي، وهو ما اعتُبر بمنزلة تغييبٍ نهائيٍّ لدوره، أي أننا شهدنا اجتماعات دارت حولها تساؤلاتٌ عن مدى شرعيتها، وعُقدت بمعدّل مرة كل عشرة أعوام، ما يدل على عدم اهميتها، قبل أن ينتهي المطاف بنا إلى وصف المنظمة، في مرسوم حمل صفة قانون، بأنها إحدى دوائر السلطة الفلسطينية، قبل أن تُعدّل صيغته (بعد ضجّة أثارها) وفُسّر الأمر حينها بتعلقه بأصول المحاكمات والدعاوى، لكن الوقائع تفيد بأنه، ومنذ اتفاق أوسلو، جرى، تدريجيًا، قلب المعادلة التي نصّت على أن المنظمة صاحبة الولاية على السلطة الفلسطينية، وأصبحت الأخيرة هي التي تتحكّم بجميع مفاصل ما كانت تُدعى منظمة التحرير، وغيّبتها وأودعتها ثلاجة الموتى، ولم تفلح جميع الدعوات إلى إحيائها، أو إعادة بنائها، أو تفعيلها، وهي دعواتٌ انطلقت على لسان الكل الفلسطيني، وسط تجاهلٍ كاملٍ من السلطة لهذا المطلب، واتهام كل سعي إليه بأنه محاولة للمسّ بوحدانية تمثيل المنظمة.
لم يعد مقبولًا أيضًا انتظار المصالحة الفلسطينية، أو الانتخابات التي أُلغيت تحت شعار تأجيلها، إذ أصبح جليًا أن قرار إجراء الانتخابات التشريعية بات قرارًا إسرائيليًا – أميركيًا، وهما يفضلان إبقاء الحال على ما هو عليه، وتجنّب أي تغيرات قد تنتج من الانتخابات، وتعزيز هيمنة الأجهزة الأمنية وتكريسها، في إطار سلطة حكم ذاتي محدود، في ظل بقاء الاحتلال الصهيوني. أما المصالحة، فقد ذهبت حواراتها عبثًا، وبات واضحًا أن الأفق أمامها مغلق، أكان ذلك في حدّه الأدنى المتعلق بتأليف حكومة وفاق تتولى إدارة الشؤون اليومية الخدماتية في الضفة الغربية وقطاع غزة، أم بمعناها الأشمل المتمثل بالاتفاق على مشروع وطني يُجمع عليه الفلسطينيون، ويعالج قضاياهم في مختلف أماكنهم. وهو ما بدا أن ثمّة أملا في الوصول إليه خلال التصدّي لصفقة ترامب – نتنياهو، لكن ذلك الأمل لم يكن غير سراب، إذ سرعان ما تخلّى الرئيس محمود عباس عن تنفيذ ما اتُفق عليه في اجتماعات الأمناء العامين ومقرّرات المجلس المركزي، من وقف للتنسيق الأمني، وإلغاء اتفاق أوسلو، وقطع للعلاقات مع إسرائيل. وتمسّكت قيادة السلطة بضرورة الالتزام بشروط الرباعية الدولية المجحفة شرطا للمصالحة أو للانضمام إلى حكومة وفاق، وهو تشدّد في غير مكانه، وإجبار للآخرين على الاعتراف بسياستها والرضوخ للشروط الأميركية والإسرائيلية.
لم تعد منظمة التحرير فاعلة، وتحوَّلت، في أحسن أحوالها، إلى أداة من أدوات السلطة الفلسطينية، ورهينة لها، تحييها وتميتها متى شاءت، لخدمة وظيفتها الجديدة المتمثلة في إحباط أي جهد، مهما كان بسيطًا، لتنظيم الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده.
ثمّة مرحلة جديدة تبدأ أو تكاد، وتعبّر إرهاصاتها عنها داخل فلسطين المحتلة كلها وخارجها، ويتجلّى ذلك في انتفاضة الوحدة التي رافقت معركة سيف القدس، ورسّخت تكامل أشكال المقاومة المختلفة، وتعدّد أساليبها، وتضافر الشعب الفلسطيني كله حولها؛ في غزة كما في الضفة الغربية، وفي الخارج كما في فلسطين المحتلة منذ 1948. كما يترافق ذلك مع المقاومة الشعبية اليومية المستمرة في القدس والشيخ جراح وبيتا وجنين والضفة الغربية كلها، ونشاط فلسطينيي الخارج، وتمسّكهم بحق العودة، ونضالهم من أجل توحيد جالياتهم وتعزيز مبادراتهم لعزل الكيان الصهيوني ومقاطعته، وفي ازدياد وسم المنظمات الحقوقية الدولية والتجمّعات الأكاديمية الكيان الصهيوني بسمة نظام أبارتهايد وفصل عنصري.
ثمّة تيار وطني عريض يتشكل عبر عشرات المبادرات الشبابية داخل فلسطين وخارجها، وهناك وحدة نضالية وتشكيلات للمقاومة الشعبية نجدها في نقاط التماسّ المختلفة مع المستوطنين في أرجاء الضفة. وفي الانتخابات البلدية، جرت محاولات عدة، كما في الخليل، لتشكيل قوائم وطنية موحدة عابرة للفصائل، تضم مختلف الاتجاهات السياسة والمجتمعية الفاعلة، بحيث جمعت أعضاء من حركة فتح وآخرين من "حماس" إلى جانب أعضاء في فصائل أخرى وشخصيات وطنية ومجتمعية، متجاوزين إملاءات السلطة وأجهزتها الأمنية، يقودها رئيس البلدية الحالي المناضل والأسير المحرّر تيسير أبو سنينة. وهي محاولةٌ، إن نجحت وجرى تعميمها على مناطق أخرى، ستكون تعبيرًا حيًا عن تيار وطني عريض ومقاوم يتشكّل من رحم المعاناة الحالية. في الوقت ذاته، تشهد تجمّعات الشعب الفلسطيني في الخارج حراكاتٍ مختلفة، تهدف إلى تنظيم نفسها، ودعم نضال الداخل الفلسطيني وصموده. وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948، ثمّة واقع جديد يتشكل، يؤمن بوحدة النضال والمصير الفلسطينيين، ظهرت ملامحه العملية في انتفاضة الوحدة قبل عدة أشهر. هذا كله ينبئ بتشكّل تيار عريض يسعى إلى التغير، وقد يتبلور على هيئة جبهةٍ وطنيةٍ متّحدة تضم فصائل تؤمن بمقاومة الاحتلال بمختلف أشكالها، مع شخصياتٍ وطنية، وحراكات شبابية، وروابط مهنية، ومثقفين ومناضلين، مهما كانت انتماءاتهم الفصائلية السابقة، تتمثل به جميع تجمّعات الشعب الفلسطيني.
أبرز مهمات هذا التيار الوطني العريض والواسع أن يتمسّك بالرواية التاريخية للشعب الفلسطيني، وأن يحافظ على وحدة الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كلها، وأن يعمل على الارتقاء بالمقاومة، بمختلف أشكالها، ضد الاحتلال، وضد نظام الأبارتهايد الصهيوني، من دون أن يقدّم نفسه بديلًا من منظمة التحرير أو منافسًا لسلطاتها، فمثل ذلك لا يعدو عن كونه نفخًا في قربة مثقوبة، وإثارة لنزاع لا طائل منه. ولعل الأجدى أن نتمثّل بما جاء في البيان الذي أصدرته "كتيبة جنين"، والذي يشكو من ملاحقات السلطة الفلسطينية للمقاومين، بالتوازي مع ملاحقات الاحتلال، ليعلن أن الرد على ذلك لن يكون إلا بتصعيد المواجهات مع الاحتلال ذاته، وهو كلامٌ صحيحٌ في مجمله، فمن شأن ذلك تجنيب الشعب الفلسطيني أي فتن أو معارك داخلية، في الوقت الذي يعزِل فيه القائمين على التنسيق الأمني مع الاحتلال ويفضحهم. من جهة أخرى، على هذا التيار أن يشكّل ضغطًا على الفصائل الوازنة والشخصيات الفتحاوية التي ما زالت تقدّم غطاءً لتصرفات السلطة وتبرّرها، كما عليها أن تضغط لتحويل السلطة الفلسطينية إلى سلطة خدمات، بعيدًا عن أي مهماتٍ سياسية، وفي الوقت ذاته، تضغط على سلطة "حماس" في غزة لإشراك القوى والشخصيات المجتمعية في إدارة الشؤون اليومية للقطاع، وهذا من شأنه أن يقوّي الجبهة الداخلية، ويعزّز من صمود المقاومة فيها.
قد يستغرق تحوّل هذا التيار إلى جبهة وطنية موحدة بعض الوقت، وهو تحوّل يرتبط أساسًا بما يمكن إنجازه على الأرض في تصعيد المقاومة ودعمها، لكنها خطوة آتية لا محالة، في ظل تعدد إرهاصاتها داخل الوطن من بحره إلى نهره وخارج حدوده.