منذ فجر التاريخ والإنسانية تعاني ويلات الحروب وما تخلفه تلك الحروب من دمار وقتل وتشريد، ولم تجد البشرية وسيلة تمنع بها نشوب الحروب التي ما زالت تدمر معالم الحضارة وتقضي على معالم الحياة الإنسانية، واستمرت المحاولات التي تسعى إلى صون البشرية من الفناء وتحقيق حلم البشرية الأزلي بتحقيق الأمن والسلم لسكان الكوكب من خلال بعض المعاهدات، وربما لم تكن معاهدة جنيف لعام 1864 أولى المحاولات التي تحد من ويلات الحروب، فكانت اتفاقية لاهاي عام 1907 التي تسعى إلى "أنسنة الحرب" وذلك بفرض قواعد تحكم المتحاربين في ساحة المعركة بهدف الحد قدر الإمكان من المآسي التي تخلفها الحروب، إلا أن كل تلك المحاولات لم تنجح فنشبت الحرب الكونية الأولى التي اجتاحت عددًا كبيرًا من دول العالم، فخلفت دماراً واسعاً في مدن الدول المتحاربة وملايين القتلى والجرحى ودمرت الاقتصاد العالمي.
وعقب هذه الحرب المدمرة تداعت دول العالم في مؤتمر باريس للسلام المنعقد عام 1919 لترتيب النظام العالمي بعد الحرب، فكان إعلان أول منظمة دولية تهدف إلى منع قيام الحرب عبر ضمان الأمن المشترك بين الدول والحد من انتشار الأسلحة وتسوية النزاعات الدولية عبر المفاوضات والتحكيم، وكانت هذه المنظمة هي "عصبة الأمم المتحدة"، ولقد مثّلت فلسفة الدبلوماسية التي أتت بها عصبة الأمم نقلة نوعيّة في الفكر السياسي الذي كان سائدًا في أوروبا والعالم طيلة السنوات المائة السابقة على إنشائها، والذي لم يكن يعتمد إلا الحروب في أغلب الأحيان لحل النزاعات بين الدول وتُفرض فيها إرادة الدول القوية على الدول الأضعف، إلا أن عصبة الأمم لم تنجح في تحقيق أهدافها بسبب تجاوز الدول العظمى في حينه لقرارات عصبة الأمم بل والعمل على مخالفة قراراتها التي تتعارض مع مصالحها، فكانت ترفض التصديق عليها أو الخضوع لها والتجاوب معها، وغالبًا ما قام بعضهم بتحدي قراراتها عنوة وأظهر احتقارًا لها ولمن أصدرها، فعلى سبيل المثال، اتهمت العصبة جنودًا إيطاليين باستهداف وحدات من الصليب الأحمر في أثناء الحرب الإيطالية الحبشية الثانية، فجاء رد رئيس الحكومة الإيطالية "بينيتو موسوليني" يقول: «إن العصبة لا تتصرف إلا عندما تسمع العصافير تصرخ من الألم، أما عندما ترى العقبان تسقط صريعةً، فلا تحرّك ساكنًا».
عدم احترام قرارات عصبة الأمم أدى إلى فشلها في تحقيق أهدافها فلم تلبث أن اندلعت الحرب العالمية الثانية، وكانت هذه الحرب أشد وأقسى من سابقتها إذ خلفت ما يقارب من ستين مليون قتيلاً ودماراً هائلاً في كبرى العواصم العالمية، واستُخدم لأول مرة السلاح النووي لأول مرة في التاريخ على يد الولايات المتحدة ضد اليابان، الأمر الذي كان بمثابة جرس إنذار لفناء البشرية، فتداعت الدول المتحضرة مرة أخرى عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وقررت إنهاء عمل عصبة الأمم لفشلها في تحقيق أهدافها وإ نشاء منظمة دولية جديدة وهي هيئة الأمم المتحدة حيث اجتمعت 50 حكومة في سان فرانسيسكو في 25 أبريل 1945 ، وبدأت في صياغة ميثاق الأمم المتحدة، والذي اعتُمد في 25 يونيو 1945، ودخل حيز التنفيذ في 24 أكتوبر 1945، تشمل أهداف المنظمة وفقًا للميثاق، الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وحفظ حقوق الإنسان، وتقديم المساعدات الإنسانية، وتعزيز التنمية المستدامة، ودعم القانون الدولي.
منذ العام 1945 نشبت عشرات النزاعات الدولية ولم تفلح قرارات الأمم المتحدة التي كانت تصدر ولم تزل في منع هذه النزاعات وما اعترى عصبة الأمم من ضعف ما زال يعتري هيئة الأمم المتحدة وربما على نحو اشد وطئة، وما تحدث به موسوليني مستهزئاً بحق عصبة الأمم تحدث به الرئيس الأمريكي جورج بوش حينما لم يحظ بقرار يدعم حربه "غير الشرعية" على العراق فقال " إن هيئة الأمم المتحدة أضحت ناديا للكلام فقط" ثم تبعه سلفه ترامب بعد ذلك واصفا هيئة الأمم المتحدة بانها "ناديا لتمضية الوقت"، نبرة الاحتقار التي تعاملت بها الولايات المتحدة والدول العظمى وضرب قراراتها بعرض الحائط يشير بشكل واضح أن هذه المنظمة فشلت فشلاً ذريعا في تحيق أهدافها وحفظ الامن والسلم الدوليين.
الحرب الروسية على أوكرانيا عززت القناعات بفشل الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث لم تلتزم روسيا قرار الجمعية الحاصل على 141 صوتًا، والذي دعاها لوقف الحرب وسحب قواتها من أوكرانيا، وهي بذلك لم تأتِ بدعاً من العمل الدولي، فهي تعلم علم اليقين أن الولايات المتحدة والدول الغربية التي تنتقدها لم تنفذ أغلب قرارات الجمعية العامة التي تتعارض مع مصالحها، وخاصة تلك التي تتعلق بالاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية، ولم تستطع الجمعية العامة أن تنفذ قراراتها إلا بحق بعض الدول الضعيفة التي ليس لها قوة تستند اليها، وأصبحت الجمعية العامة للأمم المتحدة ملجأً لا يوفر أدني حماية للضعفاء من دول العالم وليست حارسة للأمن والسلم الدوليين كما أراد لها مؤسسوها أن تكون .
العالم اليوم يشهد ما يشبه انهيار للنظام العالمي الذي تكون عقب الحرب العالمية الثانية ،وقد يكون من تأثيرات الحرب الروسية على اوكرانيا فرض معادلة جديدة في العمل الدولي تتجاوز منظومة الأمم المتحدة التي قد يكرس واقعها كشكل بيروقراطي دون مضمون، وستبقى الإنسانية تبحث عن ملاذ أمن من الحروب لم تصل اليه حتى اللحظة، ومازال العالم الذي يسمي نفسه "متحضراً" يعتمد الحرب والقتل وسيلة فعالة لحل نزاعاته، وما زالت حقوق الشعوب المستضعفة تداس ويضرب بها عرض الحائط ومازال الاقتصاد العالمي مسخر لخدمة بعض الدول التي ترفّه شعوبها على حساب قهر وتجويع شعوب أخرى، فهل تجد البشرية خلاصها في نظام عالمي جديد، أم أن الصراعات والحروب ستبقى سمة الإنسانية الملازمة لها حتى يرث الله الأرض ومن عليها؟.