تتصاعد الحرب الروسية الأوكرانية، إذ اتخذ الروس قرارًا بغزو أوكرانيا لأنهم يعدونها تاريخًا وحضارة، يجب أن تكون موالية وقريبة، ولا تحيد عن ذلك أبدًا، أوكرانيا التي رأت نفسها مستقلة، ومن حقها الانصهار في أوروبا والانضمام إلى حلف الناتو، بدعم وتوجيه كامل من الولايات المتحدة الأمريكية لاعتبارات سياسية وأمنية وعسكرية، هذا الحلم الأوكراني ترفضه روسيا وريثة السوفييت وتقف حائلًا أمام ذلك؛ وتعده مسارًا مرعبًا تسلكه حكومة كييف، يهدد أمن روسيا القومي ويعمل على إبادة طموحها إلى استعادة أمجاد وتاريخ السوفييت، الذي فكك وقضي عليه في 25 كانون الأول (ديسمبر) 1991، إضافة إلى التهديد الإستراتيجي للعاصمة الروسية، إذ ستكون في مرمى صواريخ الناتو التي لا تبعد عنها سوى ٥٠٠ كيلومتر فقط.
في هذه الحرب تحاول روسيا إظهار نفسها قوةً عظمى تتحدى العالم بأكمله، وتحاول لفت الأنظار إلى طموحها إلى عودة الاتحاد السوفييتي قبل انهياره، ومما ينسب إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قوله تعليقًا على حادثة تفكك الاتحاد السوفييتي: "من لا يراوده الأسى لغياب الدولة السوفييتية إنسانٌ بلا قلب".
فالحرب بين الطرفين تشتد يومًا بعد آخر، ولم تستخدم روسيا من قوتها العسكرية إلا جزءًا بسيطًا، والمعركة لم تحسم بعد، ولم يحقق أي من الأطراف أهدافه المعلنة والخفية، لكن كل المؤشرات تقول إن القادم عظيم، وبركان قد يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة تغير الخريطة الجيوسياسية، وينتهي عصر أحادية القطبية.
على الأرض معركة ضارية بين الأطراف يزداد زخمها، عندما بدأها الروس كان ظاهرها مناورات تكتيكية ثم تطورت إلى عملية عسكرية في عمق الأراضي الأوكرانية، مستخدمين كل أنواع الأسلحة القتالية، في المقابل أوكرانيا بدأت المقاومة والدفاع عن نفسها وكبدت القوات الروسية خسائر فادحة وُثِّقت في كثير من المقاطع المصورة التي أظهرت خسائر كبيرة في صفوف جنود ومعدات القوات الروسية، معلنة مواصلة المقاومة للغزو الروسي حتى آخر لحظة.
على الأرض حرب تحرق اليابس والأخضر، وكل طرف يبذل كل ما بوسعه لإلحاق الهزيمة بالطرف الآخر، والميدان مشتعل، لكنْ ثمة أمر كشفته هذه الحرب، وهو الاعوجاج الكبير في ميزان العدالة، إذ لم تبقَ دولة إلا وأدانت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وشرعت لأوكرانيا المقاومة بكل السبل والأدوات، وأعلن الغرب دعمه ووقوفه بجانب أوكرانيا، وقبلت فتح باب التطوع لغير الأوكرانيين الأجانب في مواجهة روسيا.
لطالما تغنى الغرب وأمريكا وأوروبا بحقوق الإنسان والحريات والديمقراطية والحياد، لكن عندما اقتربت الحرب من حدودهم ومستهم مباشرة كشفت وجههم الحقيقي، فأصبح الانحياز علنًا، والإدانة والاستنكار انقلبا إلى دعم وتعبئة وتحريض ومقاطعة وفرض عقوبات ومضاعفتها، ومزيد من العزلة التي طالت كل القطاعات الاقتصادية والخدمية والمشاركة في الرياضة العالمية، إضافة إلى حظر البريد والإعلان عبر الشبكة العنكبوتية، وإغلاق المجالات الجوية أمام روسيا، وطرد بعثات دبلوماسية واستدعاء سفراء وعقد اجتماعات ولقاءات متواصلة، وتأهب الجنائية الدولية للتحقيق في ارتكابها جرائم حرب، إضافة إلى تقديم الدعم العسكري والمالي.
ذلك جميل لو لم تحكمه ازدواجية المعايير وسياسة الكيل بمكيالين، هذه هي مواقف الغرب وأوروبا وأمريكا الداعمة لأوكرانيا، أما فلسطين فلا حق لها في المقاومة، ومقاومتها تعرف بالإرهاب، ولا تطوع بل حصار خانق، والتعاطف شبه معدوم، لم نرَ ذرة من هذه المواقف إبان احتلال (إسرائيل) أرض فلسطين عام 1948 وارتكابها أفظع المجازر وتهجير الفلسطينيين من بيوتهم قسرًا، ولم نشاهد أيًّ من هذه المواقف إبان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أعوام: (2008_2012_2014_2021)، فلم نرَ شيئًا من هذه المواقف الفاعلة ضد (إسرائيل) لارتكابها أفظع الجرائم بحق الفلسطينيين، واحتلالها أرضًا كان يسكنها الآمنون، إضافة إلى سرقتها في كل يوم مزيدًا من الأرض في الضفة والقدس، فضلًا عن سياسة إعدام الأطفال وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها.
لكن عندما أصبح الاعتداء على الغرب سارع العالم أجمع إلى التنديد بروسيا، فتخيلوا مثالًا بسيطًا عندما حرق قطاع غزة في عام 2014 وتضامن اللاعب أبو تريكة مع غزة؛ ضيقوا عليه وزعموا أن لا سياسة في الرياضة، تلك هي عدالة الغرب الكاذبة (الكيل بمكيالين) التي يتبعها، و"شجّعت (إسرائيل) على ارتكاب مزيد من الجرائم بحق الشعب الفلسطيني".
هذا هو ميزان الغرب وأمريكا، دعم أوكرانيا بالسلاح حق مشروع للدفاع عن النفس، أما دعم غزة بالسلاح لمقاومة الاحتلال فإجرام ويعاقب صاحبه بالسجن، ومقاطعة روسيا اقتصاديًّا لغزوها أوكرانيا واجب إنساني، أما مقاطعة (إسرائيل) لجرائمها بحق الفلسطينيين فإجرام وعمل غير أخلاقي، فليذق الغرب من كأس المر لعلهم يشعرون بمن كانوا يقهرون ويعدمون في كل يوم وليلة وهم لا يشعرون، فليذوقوا هذه الكأس لعلهم يمتنعون بعد ذلك عن ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين والتفريق بين الجنس الأبيض وباقي أجناس الأرض، ولعل الحرب الروسية الأوكرانية تقنع الغرب وأمريكا بأن الذي يحتل فلسطين ويقتل هو مجرم لا يقل في إجرامه عن قاتل الأوكراني ذي الشعر الأشقر والعيون الزرقاء؛ فكلٌّ سواء، ولا داعي لاعوجاج العدالة والكيل بمكيالين.