هل هي حرب عالمية ثالثة أم عالم متعدد الأقطاب أم مجرد تحريك للمياه الراكدة؟
في الأول من سبتمبر عام 1939 قامت ألمانيا باجتياح بولندا؛ ما دفع فرنسا والمملكة المتحدة إلى إعلان الحرب على ألمانيا، فاشتعلت الحرب العالمية الثانية، ومن أواخر عام 1939 إلى أوائل عام 1941، سيطرت ألمانيا النازية على مساحة واسعة من قارة أوروبا بعد سلسلة من الحملات العسكرية، ثم هزمت ألمانيا بعد تدخل الولايات المتحدة في الحرب بعد حادثة بيرل هاربر الشهيرة وانتهت الحرب باستسلام ألمانيا عام 1945م وتشكل النظام العالمي الجديد الذي ما زال قائما حتى يومنا هذا.
بتاريخ 21/8/ 1968 اجتاحت الدبابات الروسية عاصمة تشيكوسلوفاكيا "براغ"، وذلك للقضاء على الحركة الإصلاحية التي قادها الزعيم "ألكسندر دوبتشيك" تلك الإصلاحات التي عرفت بـ "الاشتراكية الديمقراطية" والتي اعتبرها الاتحاد السوفيتي خروجًا على مبادئ حلف وارسو الذي يقوده الاتحاد السوفيتي، والذي كانت تشيكوسلوفاكيا عضوًا فيه ومحاولة للميل لحلف الناتو، وقد انتهت هذه الحركة الإصلاحية التي عرفت بـ "ربيع براغ" بسيطرة الدبابات الروسية على العاصمة التشيكية.
ما حدث من اجتياح روسي لأوكرانيا في 24/2/2022م أحدث نوعًا من الاستحضار التاريخي للذاكرة الأوربية في مقارنة تمتد على شريط ثمانين عامًا من الأحداث ما بين الاجتياح النازي لأوروبا ثم الهيمنة الشيوعية على شرق أوروبا عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، ولذلك أشعلت الحرب الروسية الأوكرانية التحليلات السياسية والعسكرية، وأثر تلك الحرب المستعرة على العالم والواقع الجيوسياسي الذي سينشأ عن تلك الحرب.
كثير من التحليلات أشارت إلى أن هذه الحرب قد تتطور إلى حرب عالمية ثالثة - خاصة بعد قرار الرئيس بوتين رفع درجة استعداد أسلحة الردع الاستراتيجي إلى الدرجة القصوى- بكل ما تعنيه هذه الحرب من هدم للنظام العالمي الذي تَكوَّن عقب الحرب الكونية الثانية وتشكيل نظام عالمي جديد تقوده روسيا والصين وقد يكون لإيران دور بارز فيه.
وكثير من التحليلات تكهنت بأن العالم مقبل على انتهاء مرحلة القطب الواحد ودخولنا إلى عام متعدد الأقطاب وانتهاء عصر الهيمنة الأمريكية التامة على مسارات الأحداث العالمية.
لكن يبدو أن الأمور لم تصل بعد من وجهة نظري للحديث عن انهيار النظام العالمي السائد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ولم تنضج كذلك الأرضية السياسية والاقتصادية والعسكرية ليصبح العالم متعدد الأقطاب. الأحداث التي تجري في شرق أوروبا لم تتجاوز أحداثًا تاريخية مشابهة مرت قبل ذلك وانتهت دون تغيير جوهري في السياسية العالمية وذلك للأسباب التالية.
أولا: إن ما يحدث في هذه الحرب لا يتعدى منطقة النفوذ الروسي التاريخي الذي لا تسمح روسيا بتجاوزه، وذلك منذ عام 1992م عقب تفكك الاتحاد السوفيتي والاتفاق على أن تبقى الدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفيتي في إطار النفوذ الروسي والولايات المتحدة تتفهم ذلك جيدًا رغم أنها قامت بضم عدد من تلك الجمهوريات لحلف الناتو، ولكن عندما وصل الأمر لأوكرانيا؛ إحدى الجمهوريات السلافية الثلاث -روسيا بيلاروسيا أوكرانيا التي كانت تمثل العمود الفقري للاتحاد السوفيتي- وكانت تحتوي على ثلث القدرة النووية السوفيتية، كان لبوتين الموقف الواضح بالرفض، لذلك لا تحاول الولايات المتحدة أن تتدخل بقوة وتترك الأمر للقادة الذين وصلوا لسدة الحكم والقيادة في هذه الدول ليقرروا مصيرهم، على أن يقتصر دعمها لهم على المعدات العسكرية والضغط السياسي والدبلوماسي والاقتصادي دون التدخل المباشر، لما له من آثار قد تكون كارثية على السلم والأمن العالميين، خصوصًا وأن روسيا ما زالت قوة نووية، وهي ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم، وهذا ما يوضح سبب تدخل الولايات المتحدة في عدد من الدول سابقًا وإحجامها عن ذلك في أوكرانيا، فتدخلها في الكويت مثلًا كان لعلمها بضعف قوة العراق في ذلك الوقت أمام القدرات الأمريكية ومحدودية بل وانعدام قدرة العراق على التأثر بمجريات الأحداث والحاجة إلى تنظيم المنطقة وفقًا للمصالح الأمريكية بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، الأمر الذي لم يعد بعدها مصلحة لبقاء قوة زائدة للعراق قد "يساء استخدامها"، كذلك يختلف الأمر كثيرًا عن التدخل الأمريكي في يوغسلافيا السابقة وفرض معادلة غربية فيها، وذلك لعدم قدرة روسيا المنهكة في ذلك الوقت والخارجة حديثًا من عهد الاتحاد السوفيتي المتفكك وحاجتها لفترة "نقاهة" تستعيد فيها عافيتها، ولذلك فرضت الولايات المتحدة المعادلة التي تريد في ذلك الوقت.
ولذلك فإن من الواضح أن الولايات المتحدة تدرس خياراتها بدقة فيما يحقق مصالحها، ولذلك لا أظن أنها ترى مصلحة لها في التدخل المباشر الآن في الحرب الروسية الأوكرانية.
ثانيًا: الاستراتيجية الأمريكية خلال الفترة الأخيرة عمدت إلى الانسحاب العسكري المتدرج من مناطق النفوذ وإبقاء الهيمنة الاقتصادية والسياسية من خلال قوة النفوذ الأمريكي العالمي الذي ما زال يتحكم في كل تقاليد الاقتصاد العالمي، وهذا ما تمارسه الولايات المتحدة من خلال فرضها عقوبات اقتصادية على أي دولة تخرج عن خطوط السياسية الأمريكية العامة مثل كوريا الشمالية وإيران وسوريا سابقًا والآن روسيا، وهذا الأمر يشير بوضوح إلى أنها ليست بحاجة حتى لقرار دولي يصدر عن مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة –على أهمية ذلك من الناحية السياسية والقانونية- لكونها تستطيع أن تفرض هذه العقوبات دونمًا حاجة إلى تعاون دولي لقدرتها على ذلك ذاتيًا.
ثالثًا: ربما من مصلحة الولايات المتحدة أن يشعر القادة الأوربيون أنهم لا يستطيعون التخلي عن هيمنة الولايات المتحدة على زمام القرار السياسي الغربي الذي يمثل الهيمنة العالمية على مجريات الأحداث، وهذا ما ظهر جليا في خطاب المستشار الألماني أمام البرلمان، حيث أعلن فيه للمرة الأولى بشكل جلي التخلي عن الحيادية المعروفة عن السياسية الألمانية منذ الحرب العالمية الثانية، حيث قرر تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، والإعلان عن تطوير القدرات العسكرية الألمانية من خلال تخصيص موازنة للقدرات الدفاعية الألمانية بموازنة تقدر
بـ 100 مليار يورو، وما صاحب ذلك من تصفيق مطول لأعضاء البرلمان يشي بحجم الهلع الذي يسيطر على القادة الأوربيين من تكرار التجربة الأوروبية الفظيعة مع الرايخ الثالث أو العهد الستاليني الذي يمثله بوتين من وجهة نظرهم 2022، وهذا ما صرح به عدد منهم بشكل واضح، الأمر الذي يبقي على القارة العجوز مستظلة بالحماية الأمريكية.
رابعًا: لا تعني الهيمنة الأمريكية على القرار العالمي أن تجري الأحداث على المسرح الدولي وفقا للسياسة الأمريكية بحذافيرها، ولكن قد تحدث بعض السيناريوهات غير المتوقعة، وهنا تتدخل الإدارة الأمريكية لتعمل على تجيير هذه الأحداث وفقا للمصالح الأمريكية باستخدام الوسائل غير الخشنة بشكل عام، وهذا ما حدث في التعامل مع ثورات الربيع العربي.
خامسًا: حجم العقوبات التي فرضت حتى الآن على روسيا من قبل معظم الدول الغربية وبعض دول العالم الأخرى مثل اليابان تشير بوضوح إلى أن الاقتصاد الروسي أصبح على المحك؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى انهياره إذا لم يجد بوتين وسيلة للخروج بسلام من هذه الأزمة، وربما هذا ما كانت تسعى إليه الولايات المتحدة منذ فترة، وهو ما يحقق مصلحتها بإبقاء هذه القوة النووية الهائلة تحت رحمة أمريكا اقتصاديًا ما يعني احتواءها دونما حاجة للتصادم العسكري معها.