الحرب بين روسيا ومن خلفها الصين ضد (حلف الناتو) بقيادة الولايات المتحدة، هو نزاع على قيادة العالم، بعيدا عن الأيديولوجيا الزائفة، وما أوكرانيا إلا ميدان حرب فيه وتداعيات له، فهذه الحرب بينهم تريد منها روسيا كسب نقاط لها ضد الغرب، وتريد منها أمريكا أن تغير خارطة الغاز، وخرائط جيوسياسية وجيواقتصادية للمنطقة وللعالم، فالقيادة الأمريكية ترى ضرورة أن تكون هناك استجابة للتحديات التي تفرضها استراتيجية الأمن القومي الروسي الجديدة، والتي تهدف إلي إعادة التوازن الدولي، وإبراز نفسها كقطب دولي ثاني عائد بقوة، بالإضافة إلى توقيع روسيا اتفاق تجاري مع الصين بقيمة 1000 مليار دولار بنظام المقايضة أو تبادل العملات الوطنية دون الرجوع للدولار وكذلك توقيعهم اتفاق الدفاع المشترك، وكذلك إجراء موسكو مناورات عسكرية ضخمة في المحيط الهادئ على مسافة 300 ميل من جزر "هاواي" الأميركية، وأوضحت وزارة الدفاع الروسية حينها أنَّ هدف المناورة هو اختبار قدرة أسلحتها على "تدمير حاملات الطائرات المعادية"، ما جعل الولايات المتحدة في حالة قلق على مستوى نفوذها العالمي لذا تم تغير استراتيجيتها للأمن القومي، التي بدأت منذ أحداث سبتمبر2001 والتي تعتبر الإرهاب الخطر على واشنطن وحلفائها، إلى اعتبار كل من روسيا والصين منافساً استراتيجياً لها ولحلفائها، ما جعل من أمريكا أن تفكر في افتعال الأزمة من خلال الضغط على أوكرانيا للانضمام للناتو والتنكر لاتفاق مينسك، وهذا يعني الاقتراب أكثر من أمن روسيا وتعريضه للخطر.
من هنا ممكن أن نستنتج الأهداف التي تريد الولايات المتحدة تحقيقها من خلال افتعال أزمة أوكرانية الحالية نذكر أهمها وفق متابعتنا لفصول الأزمة وأسبابها وبالنظر للاستراتيجية الأمنية الجديدة للولايات المتحدة.
- إدخال روسيا في صراع واستنزاف عسكري واقتصادي كبير، يمنعها من الوصول لتحقيق أهدافها.
- تغيير العقيدة العسكرية لحلف الناتو ودول أوروبا، حتى تتوافق مع الأهداف الأمريكية.
- استدراج تركيا للمشاركة الميدانية بالحرب الأوكرانية، لاستنزافها ووقف تقدمها، وإسقاط أروغان.
وهذا يدلل لنا على رغبة أمريكا من دخول روسيا إلي أوكرانيا من أجل أن يؤدي ذلك إلى استنزافها عسكريا،
كنموذج أفغانستان جديدة، التي أسقطت الاتحاد السوفيتي وأرغمت أمريكا على الانسحاب دون تحقيق النصر بفعل استنزاف وصراع عسكري كبير وطويل الأمد، وكذلك نموذج العراق بحشد عدد كبير من الحلفاء (حلف الناتو) ضد روسيا لاستشعارهم بقرب الخطر عليهم، بالإضافة إلى تنفيذ مجموعة كبيرة العقوبات الاقتصادية، التي سوف تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد في روسيا وتبدأ عملية التدمير الداخلي (انهيار اقتصادي) مثل ما حدث من قبل مع الاتحاد السوفيتي، إذ تتشكل صناعة الغاز ركيزة أساسية في الاقتصاد الروسي وهو المصدر الأساسي لحصيلة النقد الأجنبي في الموازنة العامة للدولة، وتنتج روسيا من الغاز سنويا للسوق العالمي مقدار 300مليار متر مكعب، وتبلغ حصة الغاز في الاستهلاك الأوروبي نحو 40%، وفي المجموع يتم تصدير أكثرمن 200مليار متر مكعب من الغاز إلي أوروبا، فق معطيات فبراير 2022 بلغت عائدات بيع الغاز حوالي 54.2 مليار دولار مقارنة بالعام 2020 التي بلغت العائدات 25.7 مليار دولار، وعند فرض أي عقوبات بهذا الخصوص سوف تدخل روسيا في أتون أزمات اقتصادية كبيرة، وهذا بدأ يتحقق بفعل التدخل العسكري في أوكرانيا، والذي سوف يكون من نتائجه استنزاف عسكري ثم فرض العقوبات الاقتصادية.
أما فيما يتعلق بهدف تغيير العقيدة العسكرية لحلف الناتو ودول أوروبا، حتى تتوافق مع الأهداف الأمريكية.
شكل حلف الأطلسي خطوة مهمة في تاريخ العلاقات بين الجانبين الأوروبي والأمريكي. وفي 1949 أنشأت حلف "الناتو"، وكان الهدف من الحلف هو التصدي لخطر الاتحاد السوفيتي حينها، من السيطرة على أوروبا التي دمرت الحرب قوها الأساسية ( ألمانيا، فرنسا، إيطاليا وبريطانيا)، وبعد انتهاء فترة الحرب الباردة وانهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي، وعدم تشكله خطرًا على الدول الاوروبية خاصة الغربية منها، ظهرت دعوات داخل الحلف تدعو إلى عدم أهمية البقاء به، وظهور نزعات تطالب بتشكيل حلف دفاعي أوروبي، ينتهج خطًا مستقلًا عن سياسة واشنطن التي تتخذ من روسيا عدوة لها، ونتج عن ذلك رفض أعضاء الحلف لتحمل أنصبتهم في موازنته، وتباين وجهات نظر العديد من الأعضاء فيما يتعلق بمصادر التهديد التي يتعين على الحلف مواجهتها، وأيضا مواقف الدول الأعضاء التي لم تعد تراه كمؤسسة للدفاع عن الديمقراطيات الغربية، وعلى سبيل المثال، قامت تركيا بتعزيز روابطها مع كل من روسيا وإيران، بل وتمسك بشراء منظومة الدفاع الصاروخي الروسية 400-S، وكذلك المجر ترى أهمية تطوير علاقاتها بروسيا بالإضافة لليونان وألمانيا التي ترى ضرورة تطوير العلاقات الاقتصادية بين البلدين، لذا سعت أوروبا بشكل دائم للخروج من العباءة الامريكية.
ومن بين المحاولات المهمة التي قامت بها دول الحلف لتبتعد عن "وصاية" واشنطن، الشراكة الأورومتوسطية، إذ بدأت عام 1995 لتعزيز علاقاته بالبلدان المطلة على المتوسط في شمال أفريقيا وغرب آسيا، ووضعت أسس لعلاقات إقليمية جديدة، بالإضافة إلى عام 2017، وقع 23 عضوا في الاتحاد الأوروبي على اتفاقية "بيسكو"، وشكلت توقيع هذه الاتفاقية أبرز خطوة أقدمت عليها دول الاتحاد في اتجاه تشكيل اتحاد عسكري تتخلص بفضله من التبعية للولايات المتحدة، وتعتمد عليه في تنفيذ سياستها في مناطق الجوار الأوروبي، فتم إرساء سياسة مشتركة للأمن والدفاع الأوروبي، وأنشأوا صندوقا ماليا خاصا للاتحاد الأوروبي، وهي سابقة منذ تأسيس الاتحاد، وهي خطوة جديدة وجريئة انزعجت منها الإدارة الامريكية، وخافت من خروجهم من الحلف.
والخلاصة هي أن هناك تحديات تواجه الحلف من داخله، مما تعين علي الإدارة الامريكية التعامل معها بهدف استمراره في تنفيذ استراتيجيتها الأمنية الخاصة، فتوجهت أمريكا لتطبيق نظرية نابليون القائلة "إذا أردت أن توحد مجتمع ما فاصنع له عدوا خارجيا، فتم استثمار الخطر الروسي في الميدان الأوروبي عبر استدراجه في أوكرانيا منذ 2014، بهدف الحفاظ على بقاء الحلف وتقويته وتعزيزه لمواجهة الخطر الروسي والصيني القادم، مما استدعي بدول أوروبا الوسطى والشرقية أن ترى في روسيا التهديد الأكبر، وبالتالي زادت من موازناتها العسكرية، بل وطلبت بولندا ودول البلطيق المتاخمة لروسيا استضافة قوات من حلف الناتو على أراضيها.
لذا من المخرجات المهمة لقمة "الناتو" التي شارك بها الرئيس الأمريكي بايدن في (2021) التي ركزت على التهديدات الخارجية لروسيا والصين، فطالب جميع الحلفاء العمل على إصلاح جوهر عقيدتهم العسكرية الاستراتيجية، وفي سياق متصل دعا أمين عام الناتو ستولتنبرغ زعماء دول الحلف، إلى وضع سياسة مشتركة أقوى لمواجهة الهيمنة المتزايدة لروسيا والصين، وقال يجب الاستعداد لمواجهة البناء العسكري الكثيف من قبل روسيا من القطب الشمالي إلى البحر الأبيض المتوسط ومن البحر الاسود إلى البلطيق، وكذلك الصين التي تملك ثاني أكبر ميزانية دفاعية في العالم وأكبر بحرية وتستثمر بشكل هائل في المعدات العسكرية الحديثة، وقال إن الاستراتيجية الجديدة لحلف الناتو تقوم على "التعزيز العسكري للولايات المتحدة والناتو في أوروبا" لمواجهة روسيا والصين، واستطرد مطمئناً أقرانه بأن أميركا تحتفظ بقوات عسكرية في دول أوروبا الحليفة "أكثر من أي وقت مضى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي" عام 1991، وهنا تجدر الإشارة إلى الطوق العسكري الأميركي المحكم ضد روسيا والصين قوامه 400 قاعدة عسكرية "منتشرة من شمالي أستراليا مروراً بمياه المحيط الهادئ وانتهاء بآسيا الوسطى وشرقها؛" ودول أوروبا الشرقية، بالإضافة للقواعد الأميركية في تركيا، وتواجد أكثر من70000جندي أمريكي في تلك القواعد بخلاف أعداد جنود حلف الناتو.
فقام الحلف بمزيد من المناورات التي لم يشهدها منذ عقدين، وذلك في مناطق عديدة منها النرويج وآيسلاندا وشمال المحيط الأطلنطي وبحر البلطيق وغيرها، وذلك بجانب نشر قوات في كل من استونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا، تنفيذاً لقرارات كان الحلف قد اتخذها في قمته في وارسو عام 2016، كذلك أنشأ الحلف دفاعاً سيبرانيا كجزء من الدفاع الجماعي، نذكر هنا أهم مناورتين أقامهم الحلف، مناورة "الرمح الثلاثي " عام 2018 وشارك في المناورات نحو 50 ألفًا من قوات التحالف، بالإضافة إلي مناورات "المُدافع عن أوروبا في 2020"، وشارك في المناورات نحو 40 ألفًا من قوات التحالف، وقالت قيادة حلف الناتو، أن المناورة ستدعم الأهداف التي حددها الحلف للارتقاء بالجهوزية، ولردع الخصوم المحتملين، وهذا قد تحقق بفعل اشتداد الأزمة والآن ببدء الحرب العسكرية في أوكرانيا.
أما فيما يتعلق بالهدف الثالث وهو استدراج تركيا للمشاركة الميدانية بالحرب الأوكرانية.
فقد حاولت الولايات المتحدة مراراً الإطاحة بنظام أردوغان ووقف تطور تركيا، لكنها لم تتمكن من ذلك، فدعمت الانقلاب عليه ولم ينجح، وأسقطت الطائرة الروسية في تركيا بتعليمات الناتو لإشعال الأزمة مع روسيا لكنها لم تنجح، فتم اغتيال السفير الروسي في تركيا على الهواء مباشرة، ضمن مؤامرة لإشعال الأزمة بينهم، لكنها لم تنجح بذلك، فتوجهت أمريكا لإشعال الأزمة بين روسيا وتركيا في كل من ليبيا وسوريا ولم تنجح بشكل كبير، فاستغلت الصراع بين أرمينيا وحليفتها روسيا وأذربيجان وحليفتا تركيا لكنها لم تنجح بذلك، والآن تضع كل ثقلها لتحقيق ذلك من خلال حرب أوكرانيا حليفة تركيا، والتي دعمت أوكرانيا بأحدث التكنولوجيا التركية مثل طائرات بيرقدار تي بي 2 البرية وكذلك بيرقدار تي بي 3 البحرية بالإضافة إلي طائرة أكنجي للصواريخ الثقيلة، مما أدى إلي استياء واستنكار روسيا ذلك.
وأخيراً بعد نجاح الولايات المتحدة في تحقيق الهدف الأول والثاني، يبقي السؤال قائما هل تنجح الولايات المتحدة وحلف الناتو بتحقيق الهدف الثالث المتمثل باستدراج تركيا للمشاركة الميدانية بالحرب الأوكرانية وتركها وحدها لمواجهة روسيا.