تربط التحليلات المختلفة بين مصير النظام العنصري في (إسرائيل) ومصير النظام العنصري في جنوب أفريقيا، وتنتهي إلى أن فلسطين سوف تتحرر من العنصرية الإسرائيلية، كما تحررت جنوب أفريقيا من الحكم العنصري الأبيض الذي تحكم في مصير البلاد أكثر من ثلاثة قرون.
هذه المقاربة متفائلة، لكنها غير دقيقة، فالنظام العنصري في جنوب إفريقيا كان ينتمي إلى الموجات الأولى من الاستعمار، وكان المستعمرون يخططون للاستيطان والاستقرار في جنوب إفريقيا، خاصة أنهم هزموا بأسلحتهم المتقدمة الأفارقة المخالفين الذين فوجئوا بأسلحة المستعمر ومخططاته، ولكن الأفارقة عانوا معاناة فائقة من مختلف صور الاستعباد والفصل العنصري، وكان النظام يمارس ما يسمى في الأدبيات السياسية والقانونية الأبارتهايد، وهذا النوع من الحكم العنصري يحتوي على صور متعددة عنصرية، وهي الفصل العنصري والتعالي العرقي وكذلك التنمية المنفصلة، فكان السود يعملون في مزارع البيض، ولكنهم يحظر عليهم دخول المدن التي يسكنها البيض أو المطاعم ودور السينما التي يرتادونها، ولكن الأفارقة لم يفقدوا يومًا الثقة في نضالهم ضد البيض، وثقتهم بأن هذه أرضهم ووطنهم لم تفارقهم يومًا، وتوجت بنضال المؤتمر الوطني الأفريقي الذي كان يتزعمه المناضل مانديلا.
وقد تضافرت عوامل دولية كثيرة مع العقوبات الدولية لكي يتخلى البيض عن السلطة، ولا شك أن السلطة البيضاء حازت السلاح النووي، وكانت أداة لتخريب الدول الأفريقية، أيضًا كانت أداة مع واشنطن في الصراع ضد الاتحاد السوفيتي، وشهد النظام الأبيض العديد من الأحداث، أشهرها الحرب الأهلية في أنجولا حيث تمكنت حركة إمبالا الموالية لموسكو من الصعود إلى السلطة، وكانت تلك ضربة قاصمة لواشنطن عام 1975 سرعان ما ردت عليها واشنطن بتوريط الاتحاد السوفيتي في غزو أفغانستان عام 1979، وتجمع الدراسات التي أجريت في هذه النقطة على أن أفغانستان كانت أسوأ على موسكو من فيتنام على واشنطن، كما أسهمت في تقويض الاتحاد السوفيتي والقضاء عليه وانهياره عام 1989، فنجحت واشنطن بمختلف الوسائل في القضاء على الإمبراطورية السوفيتية بعد أن استمرت 72 عامًا، وانفردت واشنطن بقمة قيادة العالم، خاصة بعد مسرحية 11 سبتمبر 2001، وهكذا قضت واشنطن على نظام الحرب الباردة والقطبية الثنائية ليحل محلها نظام القطب الواحد، ولا تزال واشنطن تتعقب الاتحاد الروسي، وهذا واضح في الكتاب الذي صدر منذ أيام، وقص أسرار المؤامرة الغربية لإسقاط الاتحاد السوفيتي بقلم أحد أركان هذا النظام، الذي كشف أسرار المؤامرة التي نفذها جربتشوه بكل حسن نية.
أما (إسرائيل) فقد زرعت في فلسطين بمؤامرة دولية، وإن كانت مؤامرة استعمارية، وتوافقت موسكو وواشنطن في حالة نادرة على الاعتراف بـ(إسرائيل)، وإن (إسرائيل) تنفذ المشروع الصهيوني، الذي له طابع أيدلوجي وديني وسياسي، وهذا المشروع يقضي بطرد الفلسطينيين من أرضهم والاستيلاء عليها، وهذا لم يكن شأن البيض في جنوب أفريقيا، وقد اعترف أساتذة الاجتماع في (إسرائيل) بأن النظام العنصري في (إسرائيل) أشد فظاعة من النظام العنصري الذي تبناه البيض ضد الأفارقة، ومعنى ذلك أن النضال الأفريقي ضد الحكم العنصري كان حاسمًا في تفكيك هذا النظام، إضافة إلى العوامل الدولية الأخرى التي كانت مناهضة لهذا النضال، أما (إسرائيل) فهي مدعومة من الغرب الاستعماري، ولم تفرض عليها عقوبة واحدة بسبب سياساتها العنصرية لسبب بسيط، وهو أن الاعتراض ليس على السياسة الإسرائيلية، وإنما على مآل المشروع الصهيوني نفسه، ولذلك خلص المحللون دون أن يفطنوا للفارق الفادح بين حالة فلسطين وحالة جنوب أفريقيا إلى أن (إسرائيل) في طريقها إلى الزوال بسبب عنصريتها، فإذا كان ذلك صحيحًا لأسباب أخرى فلا نستطيع أن نتفق مع واحد من كبار المتخصصين في الحركة الصهيونية، وهو المرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري، الذي أكد مرارًا في موسوعته حتمية زوال (إسرائيل) مثلما زال الحكم العنصري في جنوب أفريقيا، فالخلاف الجذري بين الحالتين يضعف التقابل بينهما، صحيح أنهما يشتركان في أنهما حركات استعمارية، لكن (إسرائيل) حركة استعمارية استيطانية إحلالية تتستر بالدين لتحقق أهدافها، لهذا السبب نحن نعتقد أن زوال (إسرائيل) بالكامل -وليس مجرد زوال سياساتها العنصرية- لن يتحقق إلا إذا اجتمعت شروط معينة، نظرًا إلى طبيعة المشروع الصهيوني واختلافه عن المشروع الأبيض في جنوب أفريقيا.