الرسالة الأساسية التي حملها قيام قيادة منظمة التحرير الفلسطينية (قيادة السلطة الفلسطينية وفتح) بعقد اجتماع المجلس المركزي الـ31 (6–8 شباط/ فبراير 2022) أنها مُصرّة على إدارة الوضع الفلسطيني بالعقلية نفسها وبالطريقة نفسها، التي تسبّبت وما تزال تتسبب بأزمة عميقة للمشروع الوطني الفلسطيني، وبكوارث للشعب الفلسطيني وإدارة صراعه مع العدو الصهيوني، ليس ابتداء باتفاقيات أوسلو، وليس انتهاء بتعطيل مسار المصالحة الفلسطينية وتعطيل الانتخابات في أواخر نيسان/ أبريل 2021؛ مرورًا بتدهور وتردي منظمة التحرير ومؤسساتها، وتآكل السلطة الفلسطينية وتضخّم دورها الأمني، وتحوّلها إلى أداة وظيفية بيد الاحتلال؛ وفشل هذه القيادة في استيعاب قوى الشعب الفلسطيني وطاقاته الهائلة في الداخل والخارج، وإصرارها على إغلاق المنظمة في وجه قوى فاعلة وكبيرة في الساحة الفلسطينية؛ وفشلها في إدارة مسار التسوية الذي تبنته، وفرضته على أبناء شعبها.
اجتمع المجلس المركزي بعد أكثر من ثلاث سنوات من آخر دورة له، لا ليوحّد الصف الفلسطيني في مواجهته الاحتلال، وإنما ليكرس حالة الانقسام، وحالة هيمنة الفصيل الواحد في الساحة الفلسطينية ومؤسساتها الرسمية. إذ قاطعت هذا الاجتماع أربعة فصائل فلسطينية من داخل منظمة التحرير: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الشعبية- القيادة العامة، والصاعقة، والمبادرة الوطنية، بالإضافة إلى عدد من الشخصيات المستقلة؛ كما قاطعته حركتا حماس والجهاد الإسلامي غير العضوين في المنظمة، وهو ما يعني عمليًا أنه انعقد بغياب قوى تزيد قاعدتها الشعبية في الداخل والخارج عن نصف الشعب الفلسطيني؛ هذا إن لم تصل إلى نحو ثلثي هذا الشعب.
هذا الاجتماع جاء لـ"يشرعن" الترتيبات الخاصة بحركة فتح، خصوصًا لمرحلة ما بعد عباس، في متابعة الإمساك بزمام القيادة في المنظمة ومؤسساتها. ولذلك تمَّ تصعيد حسين الشيخ مكان صائب عريقات (الذي توفي في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020) ليملأ الشاغر الخاص بحركة فتح. كما تمّ انتخاب مرشح فتح، روحي فتوح، رئيسًا للمجلس الوطني الفلسطيني خلفًا لسليم الزعنون. وهو انتخاب تمّ بخلاف النظام الداخلي للمجلس الوطني، وهو اعتساف في استخدام صلاحيات المجلس المركزي، وتعدٍ على صلاحيات باقي أعضاء المجلس الوطني وحقّهم في ترشيح وانتخاب أعضاء اللجنة التنفيذية ورئاسة المجلس نفسه.
وكان من المفارقات أن يقرر المجلس المركزي "وقف التنسيق الأمني بأشكاله المختلفة"، في الوقت الذي قام فيه المجلس نفسه بانتخاب حسين الشيخ "بطل" التنسيق الأمني أو "المنسِّق الأكبر" لعضوية اللجنة التنفيذية. وهو ما يعني أن قرار وقف التنسيق جاء لـ"الاستهلاك المحلي"، مِثل قرارات مشابهة اتخذها المجلس نفسه سابقًا (في سنة 2015) وولدت ميتة.
* * *
وتضمنت قرارات المجلس إنهاء التزامات منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية مع دولة الاحتلال، وفي مقدمتها تعليق الاعتراف بـ"إسرائيل" لحين اعترافها بدولة فلسطين على حدود 1967، ووقف الاستيطان، وتحديد ركائز عملية للاستمرار في الانتقال من مرحلة السلطة إلى مرحلة الدولة، ورفض السلام الاقتصادي، ورفض "صفقة القرن"، وتفعيل مساءلة "إسرائيل" أمام المحاكم الدولية بما فيها محكمة الجنايات الدولية.. وغيرها. وهي قرارات تبدو جيدة إذا ما تمّ التعامل معها بإخلاص؛ غير أن المتابع للشأن الفلسطيني والعارف بسلوك القيادة الفلسطينية الحالية على مدى السنوات الماضية، يعلم أن هذه القرارات تفتقر للجدية، وأن القيادة المتنفذة "والغة" في مسار التسوية، ومتكيِّفة مع الدور الوظيفي للسلطة، وتفتقر للرؤية كما تفتقر للإرادة في إنفاذ أي مسارات تتحدى أو تتعارض مع الأسقف الإسرائيلية والأمريكية.
وبالتالي، فإن هكذا قرارات تُصنَّف في إطار "الاستهلاك المحلي" أيضًا، خصوصًا وأن المجلس نفسه قد رَهَن إنفاذها بتكليف قيادة اللجنة التنفيذية بوضع الآليات المناسبة لذلك. وهو ما يعني أنها ستوضع "على الرّف" اتّساقًا مع السلوك المعتاد لهذه القيادة.
وينطبق على ما سبق أيضًا، قرار المجلس بمواصلة السعي لإنهاء الانقسام، وبتشكيل حكومة وحدة وطنية، مع تكليف اللجنة التنفيذية "إيَّاها" بوضع الآليات المناسبة لتنفيذ القرار، وهو قرار عجيب من مؤسسة يُفترض أن تحترم نفسها وتحترم عقول الشعب الفلسطيني. إذ إن مُسبّبات "الانقسام" ومعوقاته وكذلك آليات تجاوزه ليست بحاجة إلى استكشاف، والتجربة العملية على الأرض في النصف الأول من سنة 2021 كشفت للشعب الفلسطيني وكافة اتجاهاته وتياراته وفصائله أن الجهة التي تعوّق إصلاح البيت الفلسطيني وتعطل المصالحة؛ هي الجهة نفسها التي تقود منظمة التحرير و"تتغول" على مؤسساتها التشريعية (بما فيها المجلس المركزي نفسه، والمجلس الوطني) والتنفيذية.
وكان الأَولى بالمجلس المركزي، إن كان ثمة جدية، أن يقوم بمحاسبة ومحاكمة ومعاقبة القيادة التنفيذية للمنظمة بسبب حالة الانهيار التي تسببت بها لمنظمة التحرير، وحالة الإحباط وانعدام الثقة والمصداقية التي تسبب بها أداؤها في إدارة ملف المصالحة. غير أنه يأتي، ويا للمفارقة، بقرار كهذا ليسلمه للقيادة نفسها.. أليس هذا "استهبالًا" للشعب الفلسطيني وقواه الحيّة المتطلعة للتغيير والتحرير؟!
وبين ثنايا القرارات التي يَحمل ظاهرُها حسًّا وطنيًا وتصعيدًا سياسيًا، نلاحظ جملة "مدسوسة" في النص تضع "إسفينًا" في مسار المصالحة، وتتيح للقيادة المهيمنة أن تتخذها ذريعة لبقائها في السلطة.. ولإبقاء أزمة المشروع الوطني الفلسطيني على حالها. إذ إن قرار السعي لإنهاء الانقسام وإنشاء حكومة وحدة وطنية تمّ ارتهانه بشرط الالتزام بـ"الشرعية الدولية" والبرنامج الوطني المعلن في المجلس الوطني الـ19 سنة 1988. وهذا يعني عمليًا استبعاد الفصائل التي ترفض الاعتراف بالكيان الإسرائيلي من المصالحة واستحقاقاتها، وتحديدًا حماس والجهاد الإسلامي.
والسؤال للمجلس المركزي ولقيادة المنظمة: إذا كنتم حريصين بحق على مسار المصالحة، فلماذا لا تتركون هكذا قرارات لإرادة الشعب الفلسطيني؟ ولماذا "تقطعون الطريق" ولا تنتظرون حتى ينتخب الشعب الفلسطيني ممثليه في المجلسين التشريعي والوطني، ليقرر إن كان سيوافق على مسار التسوية الذي تتبنوه، أم سيقرر مسارًا آخر؟!
والسؤال الثاني للمجلس نفسه: إذا كان الكيان الصهيوني والولايات المتحدة وكافة القوى العالمية وحتى العربية التطبيعية فشلت في تطويع خط المقاومة الرافض للاعتراف بالكيان على مدى الأعوام المائة الماضية، فلماذا تتولون أنتم محاولة تطويعه بالوكالة، تحت سيف "المصالحة الوطنية" وتحت سقف منظمة التحرير أو "الشرعية الفلسطينية"؟ دعكم من هذه المهمة، فهي لن تنجح؛ وارفعوها من اشتراطاتكم، إن كنتم جادين في مسار المصالحة؛ وإن كنتم منسجمين مع منظمة التحرير الفلسطينية وميثاقها ونظامها الأساسي، الذي يتيح لكل فلسطيني عضوية المنظمة، بغض النظر عن آرائه السياسية، هذا بالإضافة إلى أن من يلتزم بهذا الشرط (الشرعية الدولية المتضمنة للاعتراف بالكيان) يخالف نصوص الميثاق الوطني للمنظمة نفسها.
وأخيرًا، فإن إصرار القيادة على انعقاد المجلس المركزي في رام الله تحت الاحتلال هو رسالة بئيسة عن صناعة القرار الوطني الفلسطيني المستقل. ولو أن هذه القيادة جادة في مقاومة الاحتلال وفي مشروع التحرير لما عقدته تحت حِراب الاحتلال، ولو أن الاحتلال يعلم للحظة أنها جادة في مشروع التحرير أو في استنهاض عناصر قوته ووحدته وحيويته؛ لما سمح أصلًا بعقد هكذا اجتماع.
ويظهر أن الشعب الفلسطيني ما زال بحاجة لمزيد من الجهد لإقناع هذه القيادة بالنزول عن الشجرة، ولاحترام إرادته، كما يحتاج لمزيد من تنظيم قواه الحية الفاعلة في الداخل والخارج لتشكيل جبهة وطنية أو اصطفاف وطني ضاغط، باتجاه تشكيل قيادة انتقالية أو جهة محايدة، تتولى الإنفاذ الحقيقي الجاد لإصلاح وبناء البيت الفلسطيني.