اتصالٌ هاتفي يرِد محمد كرامة في أثناء عودته للمنزل بعدما أوصل طفلتيه للمدرسة في الصباح: "شرطة وجنود وجرافات إسرائيلية قدام بيتك!"، تسارعت قدماه نحو منزله، لأول مرة أوصدتْ أبوابه أمامه وهو صاحبه ومالكه، يصرخ في وجه الجنود: "أنا صاحب البيت" حتى أذن له -الضابط المسؤول عن تنفيذ الهدم دون سابق إنذار- بالدخول.
"لديّ أمر توقيف للهدم واجتماع مع رئيس البلدية"، لم يأخذ الضابط بكلامه: "أنا بآخذ أمر من القاضي"، تواصل محمد "أبو حمدي" مع محاميه، ما لبث أن أحضر أمرًا من محكمة الاحتلال بوقف الهدم، لكن الضابط لم يعترف بالقرار ووضع حاجزًا آخر أمام محاولة المقدسي التمسك بمنزله: "بدي قرار من البلدية".
مضت بضع ساعات أخرى، التقطت أذن "أبو حمدي" الذي يسكن بلدة الطور شرقي القدس المحتلة صوت الضابط وهو يتحدث مع مسؤولين من بلدية الاحتلال خلال مكالمة هاتفية "ما بطلع من هون إلا وأنا هادد البيت".
لم يمضِ وقت طويل حتى تَغيّر موقف محكمة الاحتلال التي استجابت لهذا الإجرام وأقرت أمر الهدم، وغطّت على الجريمة بورقة قضائية، وأبعدوا صاحب المنزل بقوة السلاح وأخرجوا زوجته وأولاده عنوة من المنزل.
يقفُ على مقربةٍ من منزله، على حين يطوق جنود الاحتلال المنطقة، يراقب جرافات الاحتلال التي وضعت أنيابها على سطح منزله بواجهته البيضاء، حاول تجاوز مجموعة جنود منعوه من الاقتراب، لم يبخلوا بإضافة حقدهم فانطلقت قنابل الغاز من فوهة بنادقهم وفرقت أفراد العائلة واعتقلوا أفرادًا منهم ودارت مواجهات في محيط المنزل، على حين واصلت أسنان الجرافات هدم الطابق الثاني من المنزل.
شكل الجنود حزامًا عسكريًّا حول المنزل يمنعون أصحابه الأصليين من دخول منزلهم، قيدوا "أبو حمدي" أمام منزله وضربوه في لحظات ودع فيها ذكرياتٍ وحجارة غادرت أماكنها وأعمدة كانت تحمل أحلام عشرين فردًا وتؤويهم.
إعلان تحدٍّ
بعينين محمرّتين صعد فوق حجارة منزله المُهدّم نهاية ذاك اليوم، وقف شامخًا صلبًا يرفع شارة النصر أمام قسوة التشرد وراية التحدي رافضًا الاستسلام: "رح أرجع أبني.. ورقبتي رح تضل لفوق.. ويا جبل ما يهزك ريح".
"جاؤوا دون سابق إنذار، مسؤول الهدم أجبر القاضي على تغيير القرار وإصدار قرار هدم، اعتدوا علينا وكسروا ظهري وضربوا زوجتي وأولادي، كان المشهد صعبًا استمروا حتى نهاية اليوم واعتقلوا أفراد العائلة، وتركوا المصابين على الأرض لعدة ساعات".
تنبعث مشاعر القهر من صوت محمد كرامة، في تلك الأثناء كانت صحيفة "فلسطين" تستمع عبر الهاتف لروايته عن ما جرى قائلًا: "ما حدث إجرام وهجمة تعسفية على القدس ومنطقة الطور لتفريغ الناس وتهجيرنا، فالأمر ليس موضوع ترخيص فهم يرفضون منحنا إياه، بل هو أسلوب لطردنا".
"أبو حمدي" الذي يملك ورشة نجارة أمضى عمره في العمل الشاق على مدار سنوات طويلة حتى أسس قاعدة المنزل الأولى عام 2001، تأسست معه أحلام العائلة وارتبطت أرواحهم وقلوبهم بالمكان، ذكريات كثيرة ومناسبات وأفراحٌ مرت وعلا صوتها من خلف تلك الحجارة، وقام ببناء الطابق الثاني عام 2014م وأسكن به أولاده.
على حين كانت العائلة تتشبث بمنزلها أمام كل محاولات الاحتلال بهدمه، سلطت الاحتلال "سيف الغرامات" التي أثقلت كاهل "أبو حمدي" يعرض جانبًا من مأساته تلك: "دفعت مخالفات فاقت 800 ألف شيقل، في تلك السنوات التي خضت فيها صراعًا مع الاحتلال استطعت تأجيل قرار الهدم ست مرات".
"في كل مرة أدفع 60 ألف شيقل وكأنها لعبة من الاحتلال يتم في بدايتها تجريد المقدسي من أمواله ثم هدم البيت".
صراع بالمحاكم
قام الاحتلال بهدم الطابق الثاني من منزله وهذا الطابق كان يعيش فيه أبناؤه المتزوجون، على حين أبقى على الطابق الأرضي غير صالح للسكن وهو مهددٌ بالإزالة والهدم أيضًا.
يطلق ضحكة امتزجت بالقهر: "بعد الهدم أرسلت بلدية الاحتلال بالقدس لي فاتورة بقيمة 170 ألف شيقل كإيجار للهدم ولشرطة الاحتلال ولعمال رفع أثاث جلبوهم وقاموا بإلقاء أثاث بيتي من النوافذ وأصبح أيضًا غير صالح، لم أبكِ على هذا الأثاث لأنني فقدت المنزل".
"شوف الجهاد اللي احنا فيه، الواحد محروم يقعد تحت سقف بيت يؤويه هو وأولاده" وصل لهذه القناعة منذ أن بدأت معاناته في محاكم الاحتلال، لكن أكثر ما يحزنه أنه طرق أبواب رئيس دائرة شؤون القدس بمنظمة التحرير عدنان الحسيني والسلطة، عدة مرات كانت الأبواب توصد أمامه بحجة "عدم وجود ميزانية" وهو أحوج لوقفة صمود.
تحرك مشهد الهدم أمامه وأنزل دموعه وهو يصف ما حدث "الصبر من الخالق، لكن حجارة البيت فيها ذكريات، لقد أدمى الهدم قلبي فكنت أسهر للواحدة ليلًا حتى أُؤمِّن معيشة لأولادي ويعيشون في الطابق الثاني وأكون سعيدًا بأحفادي".
تشع ذاكرته ببريق لحظات جميلة مرت على العائلة: "خلف الحجارة هناك مناسبات لا تنسى أخرجت بناتي الثلاث لأزواجهن منه، وزوجت اثنين من أبنائي، وكنت أعقد فيه جلسات إصلاح بين الناس وكنت أستعد للاحتفال بمراسم زواج ابني خلدون في 16 مارس/ آذار القادم في واحدة من الشقق المهدومة في الطابق الثاني بعد أن جهزتها له بالكامل".
"أرجأت زفاف ابني الآن لأنه لا يوجد مأوى أو مكان نزفه فيه" قالها "أبو حمدي"، وبينما قاطعت صوته الدموع سرعان ما استعاد صلابته وجدد التحدي "زي ما قلت راح أفرح فيه.. وحيبقى راسي مرفوع ضد الظلم والقهر".