قبل ستة عشر عامًا صنعت الجماهير الفلسطينية فوزًا ساحقًا لحركة حماس في الانتخابات التشريعية، لتحوز ما يقارب ثلثي مقاعد المجلس التشريعي، فهل كان قرارها بدخول تلك الانتخابات خاطئًا كما يرى ذلك بعض المحللين؟ على اعتبار أنها وجدت نفسها في ورطة كبيرة، حيث حوصرت وحوصر الفلسطينيون في قطاع غزة، وعاشوا ظروفًا قاسية بفعل هذا الحصار.
يرى البعض أن حماس كانت قادرة على تجنب ذلك كله من خلال ابتعادها عن العمل الحكومي، والبعد عن الانتخابات، والبقاء كحركة مقاومة، تواجه الاحتلال خالية من أي أعباء، ومن هنا كان قرار الانتخابات خاطئًا.
لكن الحقيقة من وجهة نظري البسيطة أن الحياة في جوهرها عملية تدافع مستمر، وأن السياسة هي القوة، واستثمار الفرص السانحة جوهر النجاح في العملية السياسية والاستراتيجية، وأن للمواجهة ثمنا فادحا دون شك، ولكن ثمن الانسحاب أكثر فداحة، والهجوم خير وسيلة لتحقيق النصر والنجاح.
ومن خلال ما سبق فإنني أظن أن شعبنا وإن دفع ثمنا باهظًا لفوز حماس إلا أنه حقق نتيجة متميزة، فما كان لهذا البناء المقاوم العظيم أن يتصاعد بهذا الحجم؛ لولا تواجد حماس في السلطة في قطاع غزة، وإلا ما الفارق بين شعبنا العظيم في الضفة المحتلة، وشعبنا العظيم في قطاع غزة؟
الفارق لم يكن أبدًا في مستوى القناعات والقيم، فما شاهدناه من فعل ميداني عظيم في بداية انتفاضة الأقصى في الضفة، وما شاهدناه هناك من احتفال مهيب بصواريخ المقاومة ونجاحاتها في الحروب المختلفة التي خاضتها المقاومة، يثبت أن جماهير الضفة ونخبها في شوق عظيم للفعل المقاوم، والفارق الأساسي بين البقعتين المباركتين؛ هو وجود منظومة مقاومة لها السيادة والسيطرة على الأرض في قطاع غزة.
لقد كانت الانتخابات فرصة مهمة، قد يؤدي تضييعها لكثير من الكوارث، وانظر معي لتضييع حماس فرصة الانتخابات الرئاسية عام 2005، والتي لم تدخلها للسبب ذاته الذي يراه أصحاب هذا الرأي، فهل كانت النتيجة أفضل، وهل كان دخول حماس للانتخابات الرئاسية وفوزها فيها وسيطرتها على منصب الرئاسة سيكون أكثر ضررا من الواقع البائس الذي تعيشه قضيتنا الوطنية.
لو فازت حماس في الانتخابات الرئاسية، فإن أسوأ احتمال ممكن أن يتم اعتقال ذلك الرئيس، وزعزعة استقرار السلطة وبنائها، وذلك احتمال سيء دون شك، لكنه أفضل بكثير من مشروع "التنسيق الأمني المقدس"، الذي ظفر العدو الصهيوني من خلاله بأرخص احتلال على وجه الأرض.
ومن هنا فإنني أرى أن ذلك القرار لم يكن مخطئًا أبدًا، بل إننا مطالبون كفلسطينيين بتصعيد جرأتنا السياسية، وجرأتنا في اتخاذ قرار المواجهة مع هذا الاحتلال، سواءً كانت مواجهة شعبية أو عسكرية، فأعظم الحركات المقاومة أعظمها جرأة، مع التأكيد على ضرورة أن تتحصن تلك الجرأة بدروع كثيفة من الحكمة، النابعة من القرار العلمي والمدروس.
الجرأة في القرار العسكري هي التي أربكت الاحتلال في معركة سيف القدس، وصدمته بمفاجأة غير مسبوقة، والجرأة في قرار دخول الانتخابات عام 2021 هي التي أربكت عباس، ودفعته لتعطيل قرار الانتخابات، خوفًا من خسارتها، والجرأة في قرار دخول الانتخابات التشريعية عام 2006 هي التي منحت حماس فوزًا كبيرًا، والجرأة في قرار دخول الانتفاضة عام 2000م هي التي منحت الحركة كل هذا القدر من القوة العسكرية، التي بات العدو يراها تهديدا كبيرًا رغم فارق القوة الهائل.
إن الدرس الأهم من انتخابات 2006م الذي يجب أن تحافظ عليه حماس؛ وتستلهمه في كل خطوة من خطواتها، أن القرار الجريء على ثمنه الباهظ طريق النجاح والتفوق، أما الخوف والتراجع فلن ينقذ من الهلاك، وإنما سيظهر في عين العدو ووعيه كفرصة ينبغي استثمارها لفرض مزيد من الضغوط، على أمل تحقيق مزيد من المكاسب، وعلى رأسها إزالة ذلك المتراجع من الوجود أساسًا، سواءً بالإزالة المادية قتلا وتجريفا، أو المعنوية بتغيير القناعات والقيم، ليتحول المقاوم إلى متعاون أمني، عبر عملية متدرجة لا يكاد يشعر بها، ولكن نتيجتها النهائية تكون واضحة كالشمس.
الخلاصة: سلوك حماس الجريء هو ما منحها هذه القوة، لقد كان المثل الفلسطيني عبقريا وهو يجزم واثقًا: "ما بيجيب الرطل إلا الرطلين".