العبابيد هو مسلسل سوري يجمع بين التاريخ المتعلق بمملكة تدمر بقيادة زنوبيا، والخيال حول محيط المملكة وتشابكات العلاقات المختلفة، ومعنى كلمة العبابيد هو الذاهبون في طرق شتى في شؤون حياتهم، أي المتفرقون، وإن كان هناك كثير مما يفترض أن يوحدهم ويجمعهم، ولما كنا نتحدث عن سورية من الجانب الدرامي؛ فإن الحديث يقودنا إلى حقل السياسة، وإحدى أقوى أدواتها، أي الحرب والمواجهة العسكرية، سواء أكانت واسعة وشاملة، أم كانت محدودة، وسواء أكانت مباشرة أم كانت عبر وكلاء، وهنا نرى صورة العبابيد واقعًا لا تاريخًا، مثلما رأيناها مرارًا وتكرارًا في العصر الحديث.
فالتصعيد الأخير على جبهة الجولان، بالتوازي والتزامن مع حديث زعيم المعارضة في الكيان العبري (يتسحاق هرتسوغ) عن خطر انزلاق كيانه نحو صراع إقليمي، وتسارع الحديث عن تفاهمات بخصوص غزة؛ ربما يشي بأن المطلوب هو إبقاء حالة العبابـيد سائدة في الصراع مع المشروع الصهيوني؛ فلا يخوض الصهاينة مواجهة محدودة أو واسعة ومفتوحة على أكثر من جبهة، إذ إن من هو في هدنة كان بالأمس في حرب، ومن هو في حرب كان في هدنة، وهكذا، ولأنه قد تبين _ولو مرة واحدة_ في 1973م أن "تساهال" (الجيش الإسرائيلي) لا يحقق النصر، ولا يتقدم، إذا حارب على أكثر من جبهة، وصار الكيان يعتمد على تحييد الجبهات ضده والاستفراد أو لنقل التفرغ لجبهة واحدة دون خطر من جبهات أخرى، العبابيد هي المعادلة وكلمة السر.
فمن الصعب أن نقتنع أن المصادفة وحدها ساهمت في عودة الدفء بين حماس ومصر، في الوقت الذي يهاجم فيه أصدقاء القاهرة وداعموها من روم ومن عرب حركة حماس سرًّا وعلانية، هذا في الوقت الذي تقصف فيه القوات الإسرائيلية مواقع تابعة لجيش النظام السوري، ويطلق تهديدًا شديد اللهجة نتنياهو وغيره من قادة الكيان العبري.
فإذا كانت غزة قد خاضت الحروب السابقة في ظل معادلة الحياد العربي؛ فإن المعادلة اليوم تنقلب في اتجاه معاكس، أو هكذا تبدو الصورة حتى اللحظة.
وأدرك صعوبة وتعقيد المعادلة وتداخلاتها وتفاعلات عناصرها ومركباتها سياسيًّا وميدانيًّا؛ فعلى الصعيد الداخلي السوري إنني سأستحضر من جديد الدراما السورية، التي اعتادت أن تقول صراحة أو ضمنًا إن ظلم الممسكين بمفاصل السلطنة العثمانية من جمعية الاتحاد والترقي الواقع على العرب الخاضعين لحكمها يعطي العرب مبررًا لعدم الاكتراث لما يجري للسلطنة على يد الحلفاء، خاصة الإنجليز، بل ربما يعطي العرب مبررًا وسببًا مقنعًا للتحالف أو التعاون مع الإنجليز، والنظام السوري اليوم ربما واقع في موقف مشابه، وعمليًّا إن المعارضة السورية لن تقف مع النظام في حرب محتملة مع الكيان العبري، هذا إذا لم تفسر الحرب بأنها محاولة لإعادة إنتاج النظام السوري، وإضفاء شرعية جديدة عليه، وتحسين صورته بإظهاره بمظهر الوطنية والقومية، نعم، هذا ما ستقوله المعارضة أو جزء منها.
أما غزة فإن هذه البقعة الجغرافية الصغيرة بمساحتها المكتظة بسكانها تشغل أركان كثير من المعادلات السياسية والميدانية والأمنية والاقتصادية في المنطقة والإقليم، وصولًا إلى تأثيرها _بلا مبالغة_ على العالم بأسره، وحين نحاول قراءة المعادلة في وعن وحول غزة واضعين في الحسبان هدف التحييد ينبغي أن نراعي الأمور والملاحظات والحقائق التالية ونضعها نصب أعيننا:
1) من السذاجة الظن بأن النظام المصري بقيادة السيسي صار هو وحركة حماس أخلاء، ونُزع ما في صدورهما من غلّ وباتوا إخوانًا على الخريطة متحدين متوافقين؛ فالسيسي وحماس نقيضان، ليس فقط لأن حماس تنتسب إلى المدرسة الإخوانية، ولم تغادر ولا يمكن أن تغادر هذه المدرسة فكرًا ووجدانًا، والإخوان أعداء السيسي حتى النخاع، فإضافة إلى هذا السبب إن حماس بنهجها السياسي والعسكري تشكل صداعًا وتحديًا موضوعيًّا للحالة التي نشأت بعد (كامب ديفيد) بين مصر والكيان العبري، فإن التقاء الطرفين يندرج في أمر يحتاج لكظم الغيظ منهما، والعض على الجرح العميق، والسير في حقل الألغام، ولا يمكن أن يفسر بعيدًا عن فكرة التحييد بأدوات الضغط الناعمة الصلبة.
2) فكرة ليبرمان بأن تسلم حماس ما بحوزتها من سلاح، خاصة الصواريخ، وأن تتوقف عن حفر الأنفاق، وأن تسلم خريطة ما حفرت وتحفر من أنفاق هجومية وغيرها، وأن تسلم الجنود الأسرى أحياء أو أمواتًا، مقابل تحسين ظروف المعيشة في غزة وتخفيف الحصار أو رفعه تمامًا، وإن تضمن الثمن ميناء ومطارًا في غزة؛ هي فكرة خيالية لا نصيب لها من الواقع، فلم يعد لصفقات مثل هذه حظ في التطبيق في عالمنا منذ عشرات السنين، وإن هذه الفكرة تتعامل وكأن حماس مهزومة عسكريًّا، والحقيقة ليست كذلك، وبالتالي إن السياسة الواقعية تقول بضرورة تحييد حماس ميدانيًّا وعسكريًّا، لأن هذا ممكن مدة كافية من الوقت، ويمكن تمرير صفقة أو صفقات بشأنه وبسلاسة نسبيًّا، لكن تظل فكرة تسليم السلاح مقابل رفع أو تخفيف الحصار غاية في السوريالية.
3) المواطن في قطاع غزة بغض النظر عن انتمائه السياسي _هذا إذا كان له انتماء_ كره حركة حماس أو أحبها، أو كان بين بين في شعوره نحوها، ذكرًا كان أو أنثى، من الشيب القلة أو من الشبان الكثرة، من المرضى أو الأصحاء، من العاطلين عن العمل أو من العاملين بأجور زهيدة، من الموظفين ما قبل الانقسام أو بعده، وغير ذلك من تفصيلات عن المواطن الذي قدّر الله له أن يكون في هذا الزمن من القاطنين في هذا القطاع.
ربما لا يجوز لي التحدث نيابة عنه وأنا خارج القطاع في السكن والعيش والظرف، ولكن أنا أزعم أنه سئم المناكفات والقصف الإعلامي المتبادل، وتحميل المسئولية التي صار الجميع يلقيها على الجميع، ويريد المواطن أن تنتهي هذه الحالة، بالتأكيد ليس بالاستسلام على طريقة ليبرمان، ولكن بما يضمن له الحد الأدنى من متطلبات حياة العصر.
4) المواطن الغزّي ليس جاهلًا بحياة الناس في العالم، فهو متعلم، وبيده وسائل الاتصال مع العالم، وبذلك يعرف أن حالته بتمني جدول 8 ساعات وصل كهرباء تليها 8 ساعات قطع أفضل حالة "كهربائية" يمكن أن يحياها هي وضع شاذ ولا يعرف له في هذا القرن شبيه، إلا ربما من هم خارج الحضارة والمدنية التي يعيشها سكان الكوكب، ويرى المواطن أن حق السفر والتنقل متاح لأي سبب _ومن ذلك "شمات الهوا"_ للناس حول العالم، في حين عليه أن ينتظر أسابيع وأيامًا للخروج من أجل العلاج من السرطان، وقد تكون هذه آخر سفراته، ويرى ونرى بيت الله الحرام يعج بالمعتمرين والمصلين من شتى بقاع الأرض سوى غزة منذ بضع سنين، كل التفصيلات عن حياة أهل قطاع غزة صارت معروفة، فإن المواطن هناك ربما وصل إلى حالة من السأم تجعله يقبل أي حل يقدم له الحد الأدنى من حياة ترتاح فيها أذناه من ضجيج مولدات الكهرباء المنزلية، وأزيز "الزنانات" وأصوات القصف، وصار يرى أن حياته يجب ألا تكون إما حصارًا تتخلله حروب أو جرعات من الهدوء الممزوج بالألم والمرارة تستمر أيامًا معدودة كي يستأنف الحياة تحت الحصار، ولا أظن لدى هذا المواطن بقية من صبر على الاستماع يوميًّا إلى التبريرات ولا المناكفات ولا المطالبات ولا "الكلاشيهات" التي تكررت على مسامعه آلاف المرات، دون أن تنتهي بحل، ولو جزئيًّا، أو توافق، ولو نسبيًّا، ينعكسان على معيشته، لذا إن فكرة "العبابيد" لن تكون مرفوضة عمومًا لدى الغزيين.
5) ولكن السؤال المطروح: هل قبول حماس الحياد سيكون له ثمن مجزئ حقيقي ومستمر، أم مجرد وعود في الهواء، مع فتح معبر رفح أيامًا قليلة، أو حتى للفترة التي سيتم فيها الانشغال بالمواجهة في الشمال؟، وما الضمانات المقدمة؟، والإجابة عن هذا السؤال تبدأ بأن حماس لا تملك في ظرفها ووضعها الحالي ترف الاختيار؛ فذهابها نحو الحرب قد يجلب لها ولأهل غزة مزيدًا من الدمار، وبعد أن تضع الحرب أوزارها سيظل الحصار هو الحصار، ولا تملك ورقة اللعب بالوقت، فهي ليست قطر التي استعاضت عن معابر جيرانها بموانئها البحرية والجوية، فجاءها اللبن الطازج من تركيا، وامتلأت متاجرها ببضائع إيران، فالبحر مسدود أمام حماس والبر يعني الكيان العبري أو مصر فقط، وعليه إن أي شيء يقدم إلى حماس بهدف تحييدها حاليًّا هو أفضل من بقاء وضعها على ما هو عليه، ولكن هناك هامش مناورة أمام حماس يتعلق بملف الأسرى حيث يمكنها تحسين شروط التفاوض، وتحريك هذا الملف، وتحصيل أغلب ما تريده، كما يمكنها وضع نهاية سعيدة لملف المختطفين الأربعة في مصر، وعلى هذا إن حماس ربما تريد إنجاز بعض الملفات (القبض سلفًا) التي يستبعد التراجع عنها عمليًّا، مثل صفقة تبادل وملف المخطوفين، وجعل الملفات الأخرى القابلة للتراجع مثل فتح المعبر خاضعة لمحاولة الثقة بالوعود المكتوبة أو المحكية (على التساهيل).
ما سبق يوحي بأنني شخصيًّا أوافق على فكرة العبابيد وأشجعها وأسعى إلى ترسيخها، والحقيقة أنني أقول ذلك تحت ضغط الشعور بحالة الناس في غزة، متخيلًا نفسي في ظرفهم حين تقطع الكهرباء لسبب ما ساعة أو سويعات قليلة، ولكن عند التفكير من أفق أوسع أرى أنه ربما هي فرصة نادرة لتحقيق نصر أو لنقل إنجاز عسكري له تبعات سياسية إيجابية، في حال فتحت أكثر من جبهة على الكيان العبري، ولو كنت ناصحًا وثمة من يستمع لنصحي لقلت لمن في الشمال وفي الجنوب: لا تكونوا عبابيد، واعلموا أن غنائم فتح جبهتين لهي أكبر وأهم وأعظم من صفقة تحييد جبهة الجنوب أو الشمال، دون شك.