سيكتب التاريخ في صفحات مشرقة سيرة هذا المسن الفلسطيني، المشتبك طيلة حياته في خنادق المقاومة المتقدمة مع أعتى وأسوأ احتلال عرفته البشرية، سيكتب التاريخ عن هذا الجنس من البشر الذي يجيز لنفسه أن يضرب بكلّ قوته جسد مسنّ غير مسلّح إلا بالحق الذي يحمله في قلبه الكبير، فيحطم عظامه وينخر جسده بمدرّعة الحقد التي أتقن صنعها كي تصنع الموت وتكيله بأقسى الصور وأفظعها، تماما كما داست الجرافة العملاقة راشيل كوري عام 2003 عضوة حركة التضامن الدولية. هي نفس الروح المجرمة التي قادت تلك الجرافة وداست جسدا بشريا غضّا، هي ذاتها تضرب بكل أحقادها هذا الشيخ المسن.
طريقة القتل البشعة تذكرنا بالسجل الحافل بالمجازر البشعة لهذا المحتلّ، بداية من مجازر سنة ثمانية وأربعين في تدمير القرى والبلدات الفلسطينية وتهجير أهلها منها، ومجازر في بيوت أصحابها ومجازر المخيمات ومجازر في المدارس ومقرات الأمم المتحدة، ومجازر بالنار والرصاص والقنابل الفراغية والفسفورية وكل الأسلحة المحرمة دوليا.. سجلهم حافل بما طال النساء والأطفال والمسنين والمدنيين الآمنين والأسرى في سجونهم. هذه المرة لم تكن بدعا من الأمر وإنما هو ديدنهم وروح الجريمة التي تسري في دمائهم.
ماذا فعل لهم هذا الشيخ المسن؟ وما الذي أغاظهم وأثار أحقادهم، بهذا الشكل المريع، رغم أن مقاومته لهم كانت سلمية واشتباكه معهم كان بنظراته الحادّة ووقفته الشجاعة وتصميمه على حقّه وحقّ شعبه في أرضه ووطنه، ووجوده حيث المكان الذي يغيظهم؟ وهنا نستطيع أن نلتقط الخطر الذي شكّلته نظرات هذا المسنّ على هذه الدولة المترسنة بالنووي وأعتى أسلحة الدمار الشامل.
لقد شكّل الشيخ النموذج الذي لا يريده الاحتلال، فالاحتلال يريد للإنسان الفلسطيني الحمل الوديع، عامل الورشات الذي يجيد التنقّل من الورشة للفرشة دون أن يكون له أي علاقة بالهم العام أو قضية الوطن وعزّة الإنسان في وطنه وتحقيق ذاته الإنسانية الحرّة الكريمة، فقط يريدون الأيدي العاملة الرخيصة التي تبني لهم كيانهم وتخدم مصالحهم ولا تشكل أي خطر على أمنهم.
لقد عرف الشيخ ماذا يريد الاحتلال منه وعرف هو ماذا يريد لوطنه وشعبه وقضيته، فكان في الخندق المواجه والمشتبك مع هذا المحتلّ اللئيم، هناك في مثل سنّه من يكتفي برعاية أبنائه وأحفاده، وقد يوصيهم بأن "يمشوا الحيط الحيط ويقولوا يا رب الستر"، وقد يذهب إلى المسجد ليقيم الصلاة دون أن يعرف معاني التحرّر فيها، وقد يرى بذلك أنه أحسن الناس وأتقى الناس وأورعهم وأقربهم إلى الله.
شيخنا المشتبك عرف كيف يصل بين الصلاة في المحراب والتقرّب إلى الله في خندق المواجهة، هذا واجب ولا يقلّ عن واجب الصلاة، بل هي التي تثوّر روحه لأنه يعرف إن لم تنتج الصلاة ثورة فهي استكانة وخضوع وهروب من ساحة الواقع والمواجهة.
لقد ضرب الشيخ للناس مثلا كيف يكون الدين وكيف يكون الوطن وكيف يكون الجمع بينهما في قلب رجل واحد، فلا يقيل ولا يستقيل، ضرب للناس مثلا أن الفعل لا يحده عمر معين بل هو عنفوان من المهد إلى اللحد، ما دام له عين تطرف وقدم يقف عليها، فهو في حالة اشتباك وإرادة لا تلين تواجه الدبابة والمدرّعة وجموع الجنود المسلّحين بأعتى الأسلحة، كان صادقا بكل ما لديه من قوة وجهد، إرادة لا تلين ونبض عالٍ لا يفتر أبدا حتى لقي ربّه على ذلك.