وضعت يدها تحت صنبور المياه، في لحظة كانت قد جهزت فيها دلوًا –كعادتها منذ عدة سنوات- ملأته بمياه محلاة اشترتها لتغسل يديها بها؛ إذ لا تستطيع تحمل ملوحة المياه، كانت تشيح بأنفها نحو اليمين حتى لا تشتم رائحة مياه البحر التي تصل إلى بيتها في "الحي السعودي" غرب محافظة رفح جنوب قطاع غزة.
كانت تظن أيضًا أنها كما كل مرة ستغرس يدها بكومة رغوةٍ من مياه البحر شديدةِ الملوحة، صدئت معها الخطوط المعدنية لصنابير المياه ببيتها.
لكنها ما إن فتحت الصنوبر، ونزلت مياهًا حلوةً نقية مع بدء تشغيل المحطة المركزية لتحلية مياه البحر، دفعها فضولها لغرس كف يدها تحت المياه التي نزلت دون رغوة، ظنت أن الأمر محض صدفة، فوضعت كلتا يديها تحت الصنبور وملأتهما بالمياه ثم رشقت وجهها مرة ثانية وثالثة.
تفاصيل أكثر عن مرارة المعاناة التي عاشتها منذ بدء سكنها في الحي السعودي تحتفظ بها ذاكرة السيدة مها نبهان، فتقول: "كانت مياه البحر لها رائحة، حتى أنني أحيانا كنت أشتم رائحة مياه صرف صحي، وكنت دائمًا عند الاستحمام أو التغسيل أضع مياها حلوة، فكنا لا نستطيع تحمل ملوحة مياه البحر ولا نستطيع جعلها تلامس أجسادنا".
"شجر في منزلي حرق وكانت ثماره تسقط بسبب الجفاف، حتى وأنت تنظر إلى الثمرة تشعر أنها مريضة، الآن حياتنا تغيرت وأصبحت تصلنا مياهًا حلوةً، والثمار أصبحت كبيرة، تملأ كفة اليد" خرجت تلك الكلمات ترافقها ضحكة.. "الآن تضع رأسك تحت صنبور المياه، ولا تريد رفعه، لأنك تشعر بنسمة جميلة على الجسد".
في الحي السعودي، لم تعد ترى الطابور أمام صنابير مياه السبيل المنتشرة أمام مسجد الحي، فقد كان المواطنون يصطفون وهم يحملون زجاجات وجالونات بلاستيكية لتعبئتها بالمياه، بعدما أصبحت تصلهم المياه محلاة عبر خطوط ناقلة لداخل منازلهم، لتعود بسمة الفرح إليهم مرة أخرى.
محطة المعالجة
أقصى جنوب مدينة دير البلح، يجذبك مشهد محطة معالجة مياه البحر، بعد أن تدخل من البوابة، تلمح صهاريج زرقاء ضخمة، تربط بينها خطوط سوداء كبيرة، وتلمح خطوطًا أخرى قادمة من البحر.
تسير للأمام فتجد صالة كبيرة مغطاة، في الداخل يعج المكان بلوحات قراءة، ومئات الأسطوانات البيضاء المتراصة بجانب بعضها بعضًا، تحيط بها حاويات حديدية، وتعد هذه المرحلة الثالثة لاستقبال المياه.
تقف على شِباك بلاستيكية أسفل منها خطوط ناقلة تربط بين الصهاريج، خارج الصالة ستجد صهاريج كبيرة تستقبل المياه بعد تحليتها، قبل أن تضخ وتوزع على المواطنين، للأمام أكثر تجد حقلا لألواح الطاقة الشمسية التي تشغل المحطة وتخفف من انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون بنسبة كبيرة للمحافظة على المناخ.
مراحل الإنتاج
تبدأ مرحلة العمل بالمحطة، حسب إفادة نائب المدير التنفيذي لمصلحة بلديات الساحل م.عمر شتات، بالمعالجة المبدئية، بعدما تقوم خطوط ناقلة بسحب مياه البحر فتدخل على خزانات بها فلاتر متعددة المراحل، بالأسفل يتم التخلص من الحصى، ثم الرمل.
بعد الفلترة الرملية يتم تطهير المياه بالكلور، ثم يتم نزعه من المياه، فتدخل على فلتر ميكروني يمنع أي جسم أكبر من خمسة مايكرو بالدخول، ثم يتم حقن المياه بأكثر من مادة، واحدة لمنع التكلس، ثم مادة لنزع الكلور، ومادة لأكسيد الصوديوم.
يقول شتات لصحيفة "فلسطين": "لدينا مشكلة أن هناك عنصر البورون في مياه البحر، فنسعى للتخلص منه وإيصال نسبته من 5 إلى 1، ثم يتم المعالجة الكيميائية بعدما تتوزع المياه على اتجاهين، ثم تلتقي مع بعض داخل أسطوانات بيضاء تحتوي على غشاء فلاتر يبلغ ثمنه ألف دولار لدينا منه نحو 450 غشاءً في المحطة يبلغ عمره الافتراضي خمس سنوات، بعد ذلك تذهب المياه بآخر صورها نقية إلى خزانات المحطة ثم تذهب لخزانات المياه بالمدن وهناك تصل إلى المواطنين".
ويشير إلى أن الملوحة في مياه البحر تبلغ 40 ألف ملغم في اللتر، وبعد التحلية تصبح الأملاح 200 ملغم في اللتر.
وينوه إلى أن المعايير العالمية للمياه الصالحة للشرب تشترط ألّا تزيد نسبة الأملاح على 500 ملغم في اللتر.
ثلاث محطات
بحسب شتات، فإن محطة تحلية مياه البحر بخان يونس هي إحدى ثلاث محطات تهدف لتصحيح الوضع المائي المتدهور في قطاع غزة خلال السنوات الماضية؛ لأن القطاع حسب التصنيف العالمي يعد من المناطق المتعطشة للمياه، خاصة أن 97% من مياهه الجوفية غير مطابقة لمعايير منظمة الصحة العالمية.
وحسب الإحصائيات الرسمية يستهلك قطاع غزة 250 مليون متر مكعب من المياه سنوياً، في حين تصل التغذية الراجعة من مياه الأمطار إلى 100 مليون متر مكعب، أي أن هناك فاقدًا سنويًّا يبلغ 150 مليونًا لا يتم تعويضه.
ويوضح شتات، أن أسرع تدخل لحل المشكلة تمثل بإنشاء ثلاث محطات معالجة للتحلية، واحدة بمدينة غزة تنتج 10 آلاف متر مكعب يومياً من المياه الحلوة، والثانية محطة بمحافظة الوسطى تنتجُ 6 آلاف متر مكعب يوميا، والمحطة المركزية التي يحدثنا عنها شتات بمدينة دير البلح لكنها تخدم محافظتي رفح وخان يونس تنتج 6 آلاف متر مكعب يوميا، ويجري تطويرها لكي تنتج عشرين ألف متر مكعب يومياً في الصيف القادم.
وفق شتات، نفذت المرحلة الأولى من مشروع المحطة عام 2013 لإنتاج 6 آلاف متر مكعب يوميا والذي يموله الاتحاد الأوروبي بتكلفة بلغت 10 ملايين يورو، وتنفذه مؤسسة "يونيسف" بالتعاون مع مصلحة مياه بلديات الساحل وسلطة المياه، وهي تخدم حاليا 75 ألف نسمة، وجرى الانتهاء منها قبل أربع سنوات.
المرحلة الثانية من المحطة من خلال التوسعة، يجب أن تنتج 20 ألف متر مكعب يوميا، ويتوقع ذلك الصيف القادم، وتخدم 250 ألف مواطن، وبدأ المشروع حسبما ذكر شتات عام 2019 بتمويل من الاتحاد الأوروبي بمبلغ 20 مليون يورو، وعليه سيتم إنتاج 12 مليون متر مكعب سنويًا.
هذه المرحلة ستتبعها مرحلة الحل الدائم بإنشاء محطة تحلية مركزية لإنتاج 55 مليون متر مكعب سنويًا بمرحلة أولى، و105 ملايين متر مكعب بمرحلة ثانية من خلال خط ناقل قطري يربط محافظة رفح ببيت حانون شمال القطاع، مبينا أن هذا المشروع يمتد على مساحة 65 دونمًا، ويؤدي لإعادة تأهيل الخزان الجوفي خلال 15 سنة من إنشاء المحطة.
يلحق بهذا المشروع الممول من الاتحاد الأوروبي، مشروع طاقة شمسية بقدرة 12 ميغا واط، إضافة لتوليد 4 ميغا واط من طاقة الرياح من خلال مراوح تصل ارتفاعها إلى مئة متر، مما يساهم أكثر في التقليل من التغير المناخي واستخدام المحطات العاملة بالوقود الأحفوري.
يقول شتات: "كل مشاريعنا، تركز على استخدام مصادر بديلة للطاقة، رغم كل الصعوبات التي نواجهها في تنفيذ المشاريع في ظل الاشتراطات الإسرائيلية، التي تفرض شروطا مشددة في الموافقة على إدخال تلك التكنولوجيا المتطورة".