ليس غريبًا على سلطات الاحتلال أن تخضع لإرادة أسير فلسطيني أعلن إضرابًا مفتوحًا عن الطعام، فلم يكن هشام أبو هواش الأسير الفلسطيني الأول الذي ينتزع حريته بخوضه معركة الأمعاء الخاوية، إذ سبقه في الانتصار كثيرون، أبرزهم الشيخ خضر عدنان، وسامر عيساوي، وأيمن الشراونة، وماهر الأخرس، ولؤي الأشقر، وعياد الهريمي، وعلاء الأعرج، وكايد الفسفوس، وغيرهم من الأسرى الأبطال الذين انتصروا بإرادتهم على الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط.
كل هؤلاء الأبطال خاضوا هذه المعركة وانتصروا فيها، لكن المعركة الأخيرة التي خاضها أبو هواش، كان لها طعم آخر ولها حكاية مميزة عن مثيلاتها، صحيح أن جميعهم تشابهوا في الإرادة القوية، وفي حصد الانتصار وإرغام الاحتلال على الاستجابة لمطالبهم، إلا أن هذه المعركة حملت الكثير من الدلالات الكبيرة والإشارات العظيمة التي قد تؤسس لمرحلة جديدة من تعامل الاحتلال مع قضية الأسرى أو مع أي قضية وطنية جامعة.
ولو جئنا إلى انتصار أبو هواش لوجدناه اكتسب أهميته وتميزه من عدة عوامل كلها مرتكزة على الشعب الفلسطيني ووحدته وقوته وإرادته، وهي كالتالي:
أولًا: إرادة الأسير نفسه، لطالما دأب الاحتلال على اختراع الأساليب التي تقهر إرادة الأسير من خلال الضغط على عائلته، والإهمال الطبي، ومحاولة ثنيه عن الإضراب، وإطلاق الإشاعات حول صحته، ومنعه من الزيارات، والمماطلة بتنفيذ المطالب، وتلفيق التهم سواء السرية أو العلنية، وتأجيل المحاكمات، وفوق ذلك كله الاعتقال الإداري، فعندما يستمر أبو هواش في إضرابه على الرغم من كل هذه الأساليب الدنيئة، فهو انتصار ليس عاديًا.
ثانيًا: التفاف الشعب حوله، فالمتابِع للاهتمام الشعبي يرى تخصيص وسائل الإعلام وتسليط الضوء على قضيته، إضافة إلى حجم المشاركات غير المسبوق في الاحتجاجات ومسيرات الدعم لأبو هواش، وتبنّي كل مؤسسات المجتمع المدني له، ليس ذلك فحسب بل إن الشعب الفلسطيني في أراضي الـ 48 لم يكلَّ ولم يملَّ في دعمه في سابقة هي الأولى بهذا الحجم، إضافة إلى ازدياد نقاط المواجهة مع قوات الاحتلال دعمًا وإسنادًا لأبو هواش، كل ذلك يشي بأنه انتصار غير عادي.
ثالثًا: احتضان المقاومة لقضيته، فبعد معركة سيف القدس، من الواضح أن المقاومة قد تبنّت سياسة أكثر وطنية، وهي احتضان وتبنّي أي قضية تتعلق بالثوابت والمقدسات، وعليه فقد وجدناها شنت حربًا من أجل مدينة القدس، وها هي تدخل على خط الدفاع عن الأسرى، وقد أطلقت على (تل أبيب) الصواريخ التجريبية أو التحذيرية أو التطويرية -سمّها ما شئت- في رسائل قُرئت وفُهمت أنها لن تترك أي قضية وطنية دون أن تتدخل فيها، وهذا بات عاملًا مقلقًا جدًّا للمحتل وأجهزة مخابراته ومن بعده السلطة، ولمصر التي سعت بكل قوة أن تهدئ الوضع؛ ما أجبر الاحتلال على الإسراع في الاستجابة لمطالب أبو هواش، وهذا ليس عاديًا.
رابعًا: -وهو الأهم برأيي- ربما يكون هذا الانتصار هو نهاية عصر الاعتقال الإداري وطي صفحته للأبد، فكل تلك العوامل آنفة الذكر قد تجبر الاحتلال على الإقدام على تلك الخطوة من أجل ألا تدخل في مرحلة غليان الضفة التي قد تشكّل خطرًا حقيقيًا على السلطة الفلسطينية وقدرة أجهزتها الأمنية على السيطرة على الأوضاع أو احتوائها، وعليه فإن أيّ انهيار للسلطة يعني أنَّ (إسرائيل) ستواجه شعباً بأكمله، وستنشب مواجهات شاملة في المدن والقرى والمخيّمات الفلسطينية.
وختامًا: يمكن الاعتماد على العوامل سابقة الذكر من أجل بناء إستراتيجية شاملة من أجل إغلاق ملفّ الاعتقال الإداري نهائيًّا كخطوة أولى، خاصة أن الأسير لم يكن لينتصر وحده دون دعم الشعب الفلسطيني بكل مكوناته السياسية والشعبية والإعلامية والحقوقية والعسكرية، ولعل قضية الأسير ناصر أبو حميد الذي يواجه الموت في أي لحظة، أن تكون محطَّ اختبار أمام القوى والفصائل الوطنية.