فلسطين أون لاين

إضاءات عن ليلة القدر

...
الشيخ يوسف القرضاوي

ها نحن في العشر الأواخر من شهر رمضان، ما أسرع ما تمضي الأيام، تمر مر السحاب، كأنها البرق الخاطف، كنا في الأمس القريب نتهيأ لاستقبال رمضان، ثم استقبلنا شهر رمضان، ومضى العشر الأول والعشر الأوسط، وبدأنا في العشر الأواخر، التي فيها ليلة القدر، وهي ليلة خير من ألف شهر، كما قال القرآن.

الواقع أننا لا نستطيع أن نجزم بليلة القدر أي ليلة هي، لا ليلة واحد وعشرين ولا ليلة سبع وعشرين، ولكن أرجى ما تكون في العشر الأواخر، ولذلك يقول النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في الحديث الصحيح: "التَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ"، وخصوصًا في ليالي الأوتار، الليالي الوترية: ليلة واحد وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين، ولكن إذا كان المسلمون مختلفين في البداية لا تستطيع أن نستيقن أن أي ليلة هي ليلة واحد وعشرين أو اثنين وعشرين.

فالحزم والاحتياط أن يحيي الإنسان العشر الأواخر كلها، وأظن أن ذلك ليس بكثير، لو أن الإنسان يحسبها، من يجيدون الحساب، إذا كنت ستكسب في ليلة واحدة ثلاثين ألف ليلة، كثير من أصحاب المحلات التجارية يعملون في بعض الأوقات ما يسمى (تنزيلات)، وكلٌّ يسارع حتى لا يفوت على نفسه فرصة (التنزيلات) التي قد تكون 20%، أو 50%.

انظروا –أيها الإخوة- ليلة القدر تضاعف لك الأعمال ثلاثين ألف مرة، أظن من يضيع هذا يكون أحمق، ولذلك النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يقول: "إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ"، لأنه ضيع على نفسه شيئًا كبيرًا جدًّا بالكسل.

يمكنك أن تصلي صلاة طويلة، صلاة التراويح، أو صلاة القيام والتهجد، ثم تبقى بعدها في المسجد تسبح وتقرأ القرآن، مستصحبًا لنية الاعتكاف، وتصل أرحامك، وتبر والديك، وتصالح من قطعتهم، وتتصدق بما تستطيع من صدقة، هذا كله يستطيع الإنسان أن يعمله، وليس مستحيلًا ولا متعسرًا ولا متعذرًا حتى تضيع هذه الفرص الثمينة النفيسة.

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ، لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1-3]، {لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، أي: خير من ألف شهر ليس فيها ليلة قدر، خير من تسع وعشرين ألف ليلة، أو ثلاثين ألف ليلة.

ولذلك علينا أن نتهيأ - أيها الإخوة - لهذه الليلة، وقد جاء في الحديث: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، "ومَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

وتقول عائشة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا): "كَانَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ"، وشد المئزر: كناية عن النشاط والاستعداد والأهبة، وأحيا ليله، أي: يحيي الليل كله، قبل ذلك كان ينام جزءًا ويستيقظ جزءًا، أما في العشر الأواخر فكان يحيي الليل كله، وكلمة: (أحيا ليله) توحي أن الزمان من غير طاعة ميت، وأنت إذا أطعت الله فيه تحييه، يعني من الزمان ما هو ميت وما هو حي، ومن الأمكنة ما هو ميت ومنه ما هو حي، فيه بيوت ميتة وبيوت حية، البيوت التي لا يذكر فيها اسم الله ولا تقام فيها الصلاة ولا يتلى فيها القرآن بيوت ميتة خربة، ولكن البيوت التي يذكر فيها اسم الله ويُحمد ويسبَّح ويكبَّر ويُتلى فيها كتابه وتقام فيها الصلوات بيوت حية.

فمن البيوت ما هو حي وما هو ميت، ومن الأيام والليالي ما هو حي وما هو ميت، ومن الناس من هو حي ومن هو ميت، هناك أناس موتى وهم أحياء، موجود ويمشي على الأرض ويقول: (يا أرض انهدي ما عليكِ قدي)، ولكن هذا ميت، لأن قلبه لا حياة فيه، حياة الناس إنما هي بقلوبهم، الناس إنما يحيون بقلوبهم ويموتون بقلوبهم {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122], {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: 22]؛ فالحياة حياة القلوب، وفي الصحيحين أن النبيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: "أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ".

فعلينا أن ننتهز هذه الليالي، علينا أن نحييها بطاعة الله، وذكر الله، وتلاوة كتاب الله، وفعل الخيرات، وعمل الصالحات، والتسابق على الحسنات، والبعد عن السيئات، سيئات اللسان، وسيئات البصر، وسيئات السمع، وسيئات اليد، وسيئات الرجل، وسيئات القلب، حتى النيات السيئة ابتعد عنها، ابتعد عن كل نية سيئة، وعن كل خاطر سيئ، ولنعش مع كتاب الله.