فلسطين أون لاين

تقرير ليلة عصيبة حفرتها ذاكرة الناجين في "حوارة" وجوارها من بربرية المستوطنين

...
صورة أرشيفية
نابلس-غزة/ يحيى اليعقوبي:

"صرنا نَتشاهد وتوقعنا أن نشيّع شهداء"، لم يملك زياد غالب ضميدي (48 عامًا) إلا أن يُسلّم أمره للمولى عز وجل، عندما وجد نفسه محاصرًا بين نار أضرمها مستوطنون في إطارات سيارات أسفل نوافذ منزله وسبّبت اختناقًا له ولأطفاله الأربعة، وبين مئات آخرين في الخارج يتربّصون لهم ويحاولون اقتحام البيت ببلدة "حوارة" جنوبي نابلس.

الساعة السادسة من مساء أول من أمس، وما أن توشّحت سماء البلدة باللون الأسود، تسلل نحو 150 مستوطنًا لمحيط منزل ضميدي وجيرانه، محاولين اقتحام المنزل من الأبواب الأمامية والخلفية، لكنّ باب البيت المتين والقضبان الحديدية في النوافذ "الحماية" حالت دون تمكنهم من ذلك.

يتباطأ المشهد "المروع" أمامه في مستهل حديثه لصحيفة "فلسطين" عن تلك الليلة راويًا: "تجمهر المستوطنون أمام البيت بطريقة جنونية ومخيفة، ألقوا الحجارة على النوافذ، فتكسّرت، حاولوا خلع نوافذ الحماية، والباب ولولا أنها مُثبّتة جيدًا، لاستطاعوا اقتحام البيت، ثم أرادوا تعذيبنا بإشعال إطارات سيارات أسفل النوافذ".

5 دقائق واحتمالات أخيرة

الصدمة لا تفارق صوته "عشنا لحظات مرعبة، حاولت تهدئة أطفالي الأربعة، جلسنا بمكان آمن، وبدأنا بترديد الشهادتين، وبعد ساعتين من وجود المستوطنين في الخارج، منحنا أنفسنا خمس دقائق وكنا بين 3 احتمالات: إما أنهم سيتمكنون من اقتحام البيت، وإما سنموت خنقًا، وإما سنخرج لهم من شدة الاختناق وسيقتلوننا في الخارج".

على مدار ساعتين، لم يكُف المستوطنون عن محاولة خلع الباب، وبعد فشلهم، ابتعدوا قليلًا فمنح ابتعادهم عن البيت عشرات الأمتار العائلة فرصة للخروج بواسطة سيارة إسعاف خارج البلدة.

عاد ضميدي في الصباح ورأى حجارة البيت البيضاء اكتست باللون الأسود، والباب التصق من شدة النار التي أضرمها المستوطنون، النوافذ مهشمة، طابور طويل من السيارات المحترقة، منازل التهمتها النيران، الجيران يبكون حسرتهم كما بكى هو.

اقرأ أيضًا: خاطر تُحذّر من تكرار جرائم المستوطنين بحوارة في مناطق أخرى بالضفة

في الصباح ذاته، وقف محمد عودة (32 عامًا) في بلدة "حوارة" في ذهول وصدمة وهو يرى سياراته داخل الكراج محترقة بالكامل، لم يتبقَّ من سيارات أخرى حديثة سوى هياكلها، عندما سلبت النار منها أسماءها وألوانها، وغطّاها لون الرماد الذي اكتست به.

الساعة الثانية ظهرًا، أغلق عودة محلاته التجارية بعد عملية بطولية نُفّذت على حاجز "حوارة" نتج عنها مقتل مستوطنَيْن، وجلس على باب بيته في لحظة كان يحتسي فيها القهوة ويترقب تطورات الأحداث، ولم يُدرك أنه سيكون أول المستهدفين، فلم تمر دقائق وهو يجلس بتلك الهيأة حتى أغلق الباب واحتمى خلفه من أكوام الحجارة التي انهالت عليه من مستوطنين وصلوا لباب المنزل.

"كنت أردُّ عليهم الحجارة التي يلقونها أنا وأخي، كانوا نحو 70 مستوطنًا يسير بجانبهم قوات من جيش الاحتلال، وعندما لاحظ الجنود أننا ندافع عن بيتنا، قاموا بإلقاء قنابل غاز وأخرى صوتية علينا" يروي عودة لصحيفة "فلسطين" وفي صوته المنهك غصة.

انتهى الحدث الأول بعد ساعة، وعند الساعة السادسة مساءً تواردت أنباء عن حرق محلاته التجارية وكراج سيارات يملكه هو وشركاء آخرون، منعه إخوته من الخروج، يردف بصوت يسكنه الحسرة: "لم يسمحوا لي بالخروج، لأنّ المستوطنين كانوا مستعدين لقتل أيّ فلسطيني في الخارج".

عايش عودة الكثير من اعتداءات المستوطنين على البلدة ومنزله، لكنّ هذا الاعتداء كان الحال مختلفًا: "العدد كبير، هجومهم هذه المرة كان بهدف القتل".

لم يغلق عودة عينيه هو وأطفاله خوفًا من عودة المستوطنين في جنح الظلام لحرق البيت وإكمال جريمتهم، وبالرغم من حلول الصباح إلا أنّ الخوف ظلّ مسيطرًا على الأطفال، وطلبوا من والدهم العودة للمنزل والتواجد معهم عندما ذهب لمعاينة خسائره التجارية نتيجة السيارات المحترقة ومحال لقطع الغيار تجاوزت قيمته 300 ألف شيقل، حسب تقديراته.

لحظات مروعة

أمّا أيمن صوفان من بلدة "بورين"، فلم يزر النوم عينيه هو وأطفاله في تلكَ الليلة، ظلّ يترقب فيها تسلل المستوطنين، حتى طرقت عقارب الساعة الحادية عشرة ليلًا، عندما نظر من نافذة المنزل وشاهد نحو 100 مستوطن أمام منزله بدأوا هجومهم بإلقاء الحجارة وحرق سيارتَيه.

خمسة أطفال يتشبّثون في والدهم المحاصر بين خوفهم ونار المستوطنين، جعله يواجه وحده تلك القطعان محاولًا طردهم بحجارة منزله التي لم تبخل بالدفاع عن أصحابها، يطل على الحدث مرةً أخرى في مستهل حديثه مع صحيفة "فلسطين": "لولا عناية المولى لكنت وعائلتي مُشيّعين اليوم، لأنهم استطاعوا حرق سيارتين، وتجاوز باب المنزل الأول، واقتربوا من فتح الباب الثاني".

لم يجد صوفان كلمة تُناسب ما حدث لكنه يعدُّها "حربًا شنّها المستوطنون على البلدة"، ما تزال نار القهر تحرق صوته: "عشت أربع ساعات مروعة، صراخ أطفال وبكاء، حاولنا الاحتماء بغرفة آمنة بعد أن أضرموا النار بجزء من المنزل، حتى غادروا".

اقرأ أيضًا: تظاهرات بمدن في الداخل تضامنًا مع حوارة وتنديدًا باعتداءات المستوطنين

في الاقتحام انقسم المستوطنون إلى مجموعات، جزء يسرق ممتلكات الناس، وآخر يحرق المنازل ويعتدي عليها، شاهدهم صوفان وهم يسرقون أغنام جيرانه من عائلة النجار وبعد ذلك فجروا إسطوانة غاز بالمنزل.

لا يبعد منزله عن مستوطنة "يتسهار" سوى نحو 150 مترًا، ومنها خرج غلاةُ المتطرفين، ومنذ عام 2000 يعيش في حالة قلق واعتداء لا تتوقف من المستوطنين، في إثرها تُوفّيت والدته في 2018 من جراء إصابتها من الاعتداءات، ووالده عام 2005 حينما أصابته سكتة قلبية حزنًا على البيت الذي أحرقه المستوطنون آنذاك.

خمدت النيران التي أضرمها المستوطنون في منازل أهالي بلدات حوارة وبيت فوريك وزعترة وبورين ليل الأحد-الإثنين لكنّ نيرانها ما زالت تحترق في ذاكرة الناجين الذين أفاقوا على مشهد يشبه ما تفعله الكوارث والزلازل.

عاش الأهالي ليلة دامية نتج عنها استشهاد سامح أقطش (37 عامًا) وأكثر من 390 إصابة تنوّعت بين رصاص وطعن بسكين وضرب بآلات حادة واختناق، من جراء حرق المنازل وإلقاء قنابل غاز ألقاها جنود الاحتلال، كانت حصيلتها إحراق أكثر من 100 سيارة، و35 منزلًا بالكامل و40 جزئيًّا إلى جانب تخريب ممتلكات ومنشآت ومرافق عامة.