تضرب السلطة وحركة فتح بالإجماع الوطني عرض الحائط، بإصرارهما على المضي بالمرحلة الثانية من الانتخابات القروية الجزئية في الضفة الغربية المحتلة، رغم ما في هذه الخطوة من تجاوزات قانونية ومجتمعية، وتكريس للانقسام، وهو ما يثير التساؤل حول المراد منها في ظل الموانع الوطنية المجتمعة.
وأسفرت المرحلة الأولى من الانتخابات القروية الجزئية التي سارت بعيدًا عن الإجماع الوطني، عن خسارة مدوية لحركة فتح، إذ حصدت المجالس المستقلة (70.86%) من المقاعد، في حين ما تبقى (29.14%) تحاصصته فتح ذات القوائم المتشعبة داخل الدائرة الواحدة في بعض المناطق، وقوى اليسار.
تعديلات بلا توافق
وتلاعب رئيس السلطة وحركة فتح محمود عباس في يناير/ كانون الثاني 2017 بقانون انتخابات الهيئات المحلية، واستخدم سلطته غير الدستورية -بانتهاء ولايته حسب القانون الفلسطيني- لتحوير نص قانون الانتخابات على "مقاس" حركته، أملا بفوزها في الانتخابات.
ومن أبرز مظاهر التلاعب، أن القانون الأساسي نص على أن محكمة البداية هي المختصة بنظر منازعات قضايا انتخابات مجالس الهيئات المحلية، في حين تعديل 2017 أنشأ محكمة مستحدثة أسماها "محكمة قضايا انتخابات الهيئة المحلية"، وألغى اختصاص محاكم البداية.
وبدا أن الدافع لهذا التعديل هو قطع الطريق على اختصاص محاكم البداية في قطاع غزة وأي محاكم بداية في الضفة الغربية يرأسها قضاة غير منسجمين مع سياسة السلطة، وبالتالي توحيد المرجعية القضائية بقضاة يُعينهم رئيس السلطة.
وأضاف عباس مادة جديدة إلى القانون الأساسي تحمل رقم مادة (2) مكرر، وتنص على عدة بنود منها: تشكل المحكمة المختصة بموجب مرسوم رئاسي بناءً على تنسيب من مجلس القضاء الأعلى، وتتألف من رئيس من قضاة المحكمة العليا، و14 عضوا من قضاة الاستئناف والبداية.
كما تنص المادة على أن المحكمة تختص بالنظر في استئناف قرارات لجنة الانتخابات المركزية والنظر في الطعون بنتائج الانتخابات، وتتضمن أيضا أن يكون المقر الرئيس للمحكمة في مدينة القدس، ولها أن تتخذ مقرين فرعيين لها في مدينتي رام الله وغزة، وتقسم إلى 4 هيئات ثلاثية.
وتشتمل على أنه "لا تقبل طلبات ولوائح الاستئناف والطعن بقرارات اللجنة أمام المحكمة، ما لم تكن موقعة من محام مزاول، ويمثل اللجنة أمام المحكمة محام مزاول تختاره اللجنة".
والمادة (4) من القانون المُعدل، يلغي نص المادة (13) من القانون الأساسي ويحل محله النص الآتي: تكون قرارات لجنة الانتخابات المركزية قابلة للاستئناف أمام المحكمة خلال 5 أيام من تاريخ صدورها، وتصدر المحكمة قراراها في الاستئناف خلال 5 أيام من تاريخ تقديمه، ويكون قراراها في ذلك نهائيا.
كما نصت التعديلات على السماح بإجراء الانتخابات المحلية على مراحل وفي مناطق مختلفة، بخلاف ما كان معمولا به وفق قانون انتخابات الهيئات المحلية، الذي ينص على إجرائها في يوم واحد فقط.
كما أرجأ عباس التصويت في المدن الرئيسة بالضفة الغربية مثل رام الله، التي تعد مقياسا لأداء حركة فتح في الانتخابات واستفتاء على حكم عباس، وهو ما عزاه مراقبون إلى سعي رئيس السلطة لتعزيز فرصة حركته المهيمنة على الضفة.
جدير بالذكر أن كل التعديلات أجراها عباس "سرًّا" بعيدا عن أي توافق وطني مع باقي فئات الشعب الفلسطيني سواء الفصائل والقوى السياسية أو مؤسسات المجتمع المدني.
ورغم ذلك مضت فتح في إجراء الانتخابات القروية الجزئية بالضفة الغربية في مرحلتها الأولى –بخلاف الدستور الفلسطيني- وجاءت نتائجها بغير ما تشتهيه سفنها، إذ كشفت هذه الانتخابات عن مدى تدني شعبيتها في الضفة الغربية.
وكشفت هزيمة حركة فتح عن حالة التشظي التي تعيشها، إذ تقدمت بأكثر من قائمة في انتخابات المجلس الواحد، وفي بعض المجالس انتهت الخلافات بين أفرادها من المحاصصة إلى عدم المشاركة، أو "العربدة" عبر إخضاع بعض العائلات بقوة السلاح للتقدم باسمها أو تبني أحد قياداتها ودعمه في الانتخابات، أو تشويش أفراد يتبعون الحركة على انتخابات بعض المجالس حتى يتم تعينها بالتزكية.
الضفة دون غزة
ويرى خبيران في الشأن القانوني أن التعديلات التي أجراها عباس على قانون الانتخابات المحلية تأتي ضمن محاولاته الرامية لاستمرار هيمنة السلطة التنفيذية على القرار حتى على الهيئات المحلية.
ويقول رئيس مجلس إدارة الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني "حشد" د. صلاح عبد العاطي: إن هذه التعديلات مخالفة للمادة (46) في القانون الفلسطيني، التي تُجيز إجراء التعديلات في حالة الضرورة التي لا تقبل التأجيل، مشيرا إلى أنها تمت دون توافق وطني.
وأوضح عبد العاطي في حديث لصحيفة "فلسطين" أن التعديلات التي أجراها عباس تم تنفيذها في الضفة الغربية دون غزة، بالتالي هذا يعزز الانقسام التشريعي والقضائي، وهيمنة السلطة التنفيذية، مشددا على ضرورة إيجاد مخرج وطني يبدأ باستعادة الوحدة.
ولفت إلى أن إجراء التعديلات يهدف إلى استمرار هيمنة السلطة على إجراء العملية الانتخابية دون شراكة مع المجتمع والقوى السياسية، أي ضمن سياسة "التفرد".
وبحسب عبد العاطي، فإن عباس يصر على الانتخابات القروية الجزئية هروبا من الانتخابات العامة، لتخفيف الضغوط التي مورست على السلطة بعد تعطيلها، لافتا إلى أن إجراءها دون توافق مع النظام السياسي على آلياتها سيُفشل عملية الانتخابات برُمتها.
وشدد على أن "إجراء الانتخابات في الضفة دون غزة تكريس للانقسام".
وأوضح أن المرحلة الأولى من الانتخابات القروية الجزئية جرت دون الإعلان عن المرحلة الثانية، علما أنه كان بالإمكان أن تُجرى في مرحلة واحدة بمشاركة كل القوى الوطنية والسياسية "وهذا لم يحدث"، مبينا أن المرحلة الثانية ستبدأ دون إتمام أي تحضيرات أو إجراء حوارات وطنية.
وعدّ إجراء السلطة الانتخابات القروية الجزئية بهذه الطريقة انتهاكًا لحق المواطنة لأبناء قطاع غزه وحرمانهم من المشاركة والمساءلة والمحاسبة والتغيير، في الهيئات المحلية، واستمرار حرمان بلديات قطاع غزة من دعم الدول المانحة.
ويؤيد ذلك الخبير القانوني د. نافذ المدهون، إذ رأى إجراء الانتخابات المحلية بكل مراحلها ليست مؤشرا للديمقراطية في فلسطين، إنما الأصل إجراء انتخابات رئاسة السلطة التي تجاوز رئيسها المدة الدستورية في الحكم.
وقال المدهون لـ"فلسطين": يجب على السلطة برام الله إعطاء أهمية لإجراء انتخابات رئاسية أولا وفق قوانين متفق عليها وطنيا وليس قوانين مفصلة لحالة سياسية أو وفق هوى فصيل سياسي محدد، مؤكدا أن إجراء الانتخابات التشريعية والمجلس الوطني أهم من التركيز على الانتخابات المحلية.
واعتبر إصرار عباس على إجراء الانتخابات القروية الجزئية يندرج في سياق إلهاء الشعب الفلسطيني فقط، كونه لن يساهم في تحقيق الوحدة الوطنية بل سيزيد الشرخ بين الفلسطينيين، مشيرا إلى أن العملية الديمقراطية مصابة بالشلل القانوني والفساد السياسي، كونها منظومة لا تتمتع بشرعية بدءا من عباس -المنتهية ولايته منذ 2009- الذي يصدر المراسيم، وصولا لصناديق الاقتراع التي تراقب عليها أجهزة أمنية تنسق مع الاحتلال الإسرائيلي تسعى للبقاء في مناصبها فقط.
وتسعى حركة فتح من خلال هذه الإجراءات المتفردة إلى تسمين قططها في المناطق العشوائية علها تأتيها بصيد ثمين (أصوات) في الانتخابات اللاحقة، كما ترى في هذه الخطوة وسيلة للتنصل من ضغوط دولية تعرضت لها عقب تعطيل رئيسها الانتخابات العامة، وربطت المنح والمساعدات بالعملية الديمقراطية.
يُذكر أن مجلس الوزراء برام الله أصدر القرار رقم (126/18) لسنة 2021 بتاريخ 27 سبتمبر/ أيلول 2021، الداعي لإجراء الانتخابات القروية الجزئية "المرحلة الثانية" في 26 مارس/ آذار 2022، ودون توافق وطني أيضًا.
ومن الجدير بالذكر أنه لم تنظم أي انتخابات تشريعية أو رئاسية في أراضي السلطة منذ 15 عامًا.
وفي إبريل الماضي، أصدر عباس قرارا بتعطيل الانتخابات التشريعية التي كانت مقررة في 22 مايو، مخالفًا الإرادة الشعبية، عدا عن اتهامه على نطاق واسع فلسطينيًّا بإفشاله مساعي الوحدة الوطنية مقابل ترسيخ علاقته وعلاقة سلطته بالاحتلال.