بعظمة صقر يفرد جناحيه ويأبى إلا التحليق في الأعالي والعيش بين القمم، لا يعترف بضعف أو حدود تقف دون ما يصبو إليه، وشخص عالي الثقافة راقي التفكير واسع الاطلاع واضح الأهداف والرؤية، وتواضع إنسان صقلت روحه مقارعة الاحتلال وأفشلهم وفوت عليهم نشوة النصر، جلس الأسير المحرر مصطفى محمود أحمد خدرج "أبو خطاب" يروي بعض تفاصيل الأسر والمحطات المهمة التي مرَّ بها لصحيفة فلسطين.
بدأ كلامه مؤكدًا: "في البداية أُصر على أن أُطلق على نفسي صفة أسير مفرج عنه أنهى محكوميته كاملة ثمانية عشر عامًا وتسعة أشهر لا ينقصها يوم، لأن عبارة" الأسير المحرر" تُطلق على من حُرر قبل انقضاء محكوميته، عامان من المطاردة الحثيثة لم أتوقع خلالهما أن أقع بين أيديهم، رافقها محاولات عدة لاغتيالي، انتهت بخمسة عشر رصاصة تستقرُّ في أنحاء مختلفة من جسدي لأسقط لقمة سائغة في قصعتهم، فانقضُّوا عليها يتناهشونها قبل أن تفلت الفرصة من بين أيديهم، لم يرد الاعتقال في حساباتي مطلقًا، فإما التحليق مقاومًا حرًّا وإما شهادة مشرفة أنال بها رضا ربي، ولكن هو قدر الله الذي لا مفرَّ منه، عامان من المطاردة.
في ظهيرة يوم الأربعاء بتاريخ 12/3/2003، وكنت في التاسعة عشرة عامًا من عمري، داهمتني قوة من المستعربين بملابس مدنية في وسط مدينة قلقيلية الساعة 2:40 تحديدًا، أطلقت وابل نيرانها عليَّ من مسافة مترين، أُصيبت ساقي اليسرى بـست رصاصات، واليمنى بـخمس، وواحدة أصابت يدي، وثلاثة منها اخترقت الجعبة العسكرية التي ارتديتها واستقرت في ظهري، لم تُكتب لي الشهادة حينها، أما الرصاص فما تزال شظاياه في جسدي، حاولت إزالة بعضها بيدي وبالمغناطيس، ولكني لم أنجح، وبقيت تؤلمني وتتورم وتلتهب أحيانًا، أما ساقي اليسرى فهي أقصر من أختها، بعد أن التأم عظمها بطريقة مشوهة، وساقي اليمنى بلا ركبة بعد أن فتتها الرصاص، يمسك بعضها الآن ببعضٍ براغي البلاتين المؤلمة التي تكون نتوءات تحت الجلد وتؤلمني.
أمضيت عامين في التوقيف والتحقيق القاسي برغم إصابتي وصحتي المعتلة، حُكم علي بعدهما بـالسجن 18 سنة، أُضيف إليها تسعة أشهر وغرامة بقيمة 50 ألف شيكل في قضية جديدة.
نقَّلوني بين سجون كثيرة، كان أولها مستشفى الرملة، لم أمكث أحيانًا في السجن الواحد أكثر من ستة أشهر، لمواقفي: حيث كنت جزءًا من التنظيم، وممثلًا لحماس أمام الفصائل الأخرى وإدارة السجن، وكنت أعارض ما يصدر عن إدارة السجن ضد مصلحة الأسرى، فكان لا بد من دفع ثمن تلك المواقف، نقلوني بين هداريم، وشطة، جلبوع، ومجدو، والنقب ... وكما تعلمون إن عمليات النقل بين السجون جزء من العقاب الذي يفرضه الاحتلال على الأسرى لمضاعفة معاناتهم.
لم أترك أيامي تضيع سُدى في الأسر الذي فُرض عليَّ، ما دفعني إلى الدراسة بنظام المجالسة، ويتضمن ذلك النظام: حضور مساقات دراسية، وامتحانات، ونقاشًا، وحفظ قرآن، وتفسيرًا، وحديثًا، وفقهًا وتشريعات وأحكامًا ... إلخ، وتخرجت مختصًّا في العلوم الدينية والشرعية.
حبي الشديد للقراءة جعل الكتاب أقرب رفاقي وأعانني على تأليف كتابي الأول عن الإشاعة وكل ما يتعلق بها في ثلاثة مجلدات، وأصدقاء الأسير المخلصون يحفظون وقته، ويمدونه بالقوة، ولا يخذلونه أو يخونونه، وهل هناك أصدقاء بهذه المواصفات أفضل من الصيام والكتاب والرياضة ليمدوا الأسير بنفسية عالية، وصحة قوية، وذاكرة يقظة؟!
السجن أكبر وأصعب غربة، أيام الأسر الأولى كانت صعبة، شديدة القسوة، تضافرت فيها برودة الجو مع إصاباتي التي عالجوها بوضع البلاتين في ساقي لأتمكن من المشي فقط، يوازيها قطب جراحية كثيرة تتوزع في أنحاء جسدي، أضف إليها قسوة السجان، والتفكير الكثير بمستقبل يبدو قاتمًا، وتساؤلات كثيرة عما سيحدث لأهلي، والحزن الذي يمس قلوب والديَّ ولا يتركهما يرتاحان.
السنة الأولى نُقِّلت بين ستة سجون، لم أستطع استيعاب مشاعري، لم أعتد السجن ومفرداته، نتج عنه تخبط دائم، وعدم استقرار، ضاعف من معاناتي حينها قدوم شهر رمضان في بدايتها، ولرمضان طقوس معتادون عليها بين الأهل، ولكني وجدت الأسرى يخلقون طقوسًا تعين على التأقلم والاستمرار.
بلغني أن الاحتلال فاوض الشيخ أحمد ياسين على أن يعترف بـ(إسرائيل) ليفرجوا عنه من سجن الرملة، رفض بإصرار قائلًا: "حين يريد الله لي ذلك ستأتون، وتفتحون لي الأبواب وتستعجلونني لأخرج، الخروج بيد الله، وكل شيء آخر مجرد أسباب"، أمدتني هذه الحادثة بعزيمة وثبات كنت بأمس الحاجة إليهما. لم أترك مشاعري القاتمة وأفكاري التائهة لتعبث بي وتفقدني توازني، ولم أعد أسأل متى سأخرج، برمجت نفسي على استثمار وقتي في صقل شخصيتي والتزود بالعلم والمعرفة والاهتمام بتطوير ذاتي، واتجهت إلى تحديد رؤية واضحة لحياتي، فلا أبقى أتعذب وأشعر بالوقت يتضاعف، فمن يعرف هدفه جيدًا فلن يضل في هذا الخضم المتلاطم، سيميزه، مهما كان بعيدًا.
لا أَدَّعي أني تأقلمت مع الأسر، الأسر ليس جزءًا من الحياة، هو ليس حياة طبيعية، يقولون في المثل: "السجن للرجال"، السجن ليس للرجال، هو لم يُخلق للرجال، السجن للمجرمين، للظالمين، للفاسدين، للطغاة، وليس للأحرار أصحاب المبادئ.
أقسى أيام الأسر كانت يوم بلغني نبأ وفاة والدي، ضاقت الدنيا في نظري، ودخلت في حالة من الحزن الشديد، تؤلمني هذه الذكرى، ولكن كان عليَّ أن أستمر وأسلم أمري لله.
الحرية كنز لا يُقدر بثمن، والأسر ليس محنة فقط، بل محنة نحولها بعزيمتنا وإيماننا إلى منحة، وسنكمل في هذا الدرب، سأمضي الآن في رحلة العلاج، ثم أتجه للعمل، والزواج وتكوين أسرة، أحمد ربي كثيرًا على كل شيء".