يختتم الفلسطينيون عام 2021 على وَقْع مقاومة فلسطينية متصاعدة، ومواجهات شعبية متواصلة على مدار الساعة مع جيش الاحتلال ومستوطنيه الذين دأبوا على مهاجمة القرى والبلدات الفلسطينية، ومارسوا عدوانهم الهمجي على الفلسطينيين العزّل في مختلف مدن الضفة، ولا سيما محافظات نابلس وجنين شمال الضفة المحتلة، في مشهد يعيد إلى ذاكرتنا الفلسطينية أحداثًا ميدانية مشابهة أدت إلى انطلاق العديد من الانتفاضات والثورات الفلسطينية خلال العقود الأخيرة في مواجهة الاحتلال.
عمليات فدائية متصاعدة
تأتي المواجهات الأخيرة في الضفة المحتلة تتويجًا لعام فلسطيني مقاوِم أرهق جيش الاحتلال، ودفع المراسل العسكري لموقع "ويلا" العبري "أمير بوخبوط" قبل أيام للتصريح بأن جيش الاحتلال "فشل في فرض الهدوء في الضفة الغربية"، فبحسب إحصائية حديثة نشرتها وكالة فلسطين اليوم الإخبارية، فقد تزايدت العمليات الفدائية كمًّا ونوعًا تدريجيًّا ضد الاحتلال في الضفة والقدس، حيث نجحت المقاومة في تنفيذ 175 عملية إطلاق نار، و38 عملية طعن أو محاولة طعن، و19 عملية ومحاولة دهس، و53 عملية زرع أو إلقاء عبوات ناسفة ضد جيش الاحتلال ومستوطنيه، كما نفّذ شباب المقاومة 109 عمليات حرق منشآت وآليات ومناطق عسكرية، و17 عملية تحطيم وتهشيم مركبات عسكرية للاحتلال، و3 عمليات نجحوا خلالها في إسقاط طائرات دون طيار من نوع "درون".
وبحسب ذات الإحصائية فإن المقاومة الشعبية تصاعدت تصاعدًا ملحوظًا في الضفة والقدس، حيث وقعت 3535 عملية إلقاء حجارة، و509 عمليات إلقاء زجاجات حارقة، و3644 مواجهة بأشكال متعددة، و1109 مواجهات واعتداءات لمستوطنين، و1299 مظاهرة ومسيرة شعبية فلسطينية، و51 عملية إطلاق مفرقعات نارية، و131 فعالية إرباك ليلي، في إشارة واضحة إلى أن محافظات الضفة ومدينة القدس المحتلة باتت مُهيّأة لاشتعال انتفاضة شعبية عارمة في مواجهة جيش الاحتلال ومستوطنيه.
فساد وانحراف خطِر في دور السلطة الفلسطينية
تصاعُد المقاومة الشعبية والمسلحة في الضفة المحتلة خلال العام الأخير جاء، في ظل انهيار خيار التسوية وفشل حركة فتح وقيادة السلطة الفلسطينية في تحقيق أي إنجازات سياسية على صعيد القضية الفلسطينية، وفساد كبير داخل هياكل السلطة الفلسطينية أكدته العديد من المؤسسات الحقوقية المختصة، وفي مقدمتها مؤسسة الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان"، والتي أظهر استطلاع للرأي أجرته المؤسسة مطلع أكتوبر الماضي بأن غالبية الشعب الفلسطيني يرى بأن مستوى الفساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية ما زال كبيرًا، وبشكل خاص في المناصب العليا لمؤسسات السلطة الفلسطينية (الوزارات، والرئاسة، والأجهزة الأمنية)، وأن فساد السلطة قد ازداد في عام 2021، وقد أدى انتشار هذا الفساد إلى حرمان السلطة غالبيةَ التمويل الغربي، وهو الأمر الذي أكدته وزيرة خارجية السويد "آن ليندي" في تصريح شهير لراديو السويد في العشرين من أكتوبر بأن مستوى الفساد الموجود يحول دون تقديم مساعدات لتنمية الاقتصاد الفلسطيني.
وفي ذات السياق بلغ الانحراف الوطني في دور السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية مستويات غير مسبوقة، بدءًا من دورها المشبوه في توفير الحماية للمستوطنين الصهاينة، وملاحقة أنصار المقاومة الفلسطينية في الضفة المحتلة، والنكوص عن دورها في حماية الفلسطينيين، ومطالبتها قبل أيام على لسان الناطق باسم حكومة اشتية إبراهيم ملحم ونائب رئيس حركة فتح محمود العالول للفلسطينيين العزّل بحماية قراهم وبيوتهم وأراضيهم من هجمات المستوطنين، ومناشدتها المجتمع الدولي مؤخرًا على لسان عضو اللجنة التنفيذية لحركة فتح حسين الشيخ بتوفير الحماية للشعب الفلسطيني!
هذه الأجهزة الأمنية المسلحة والتي يبلغ تعداد أفرادها بحسب صحيفة اندبندنت عربية 53 ألفًا، وتبلغ نفقاتها السنوية مليار دولار، بما يعادل 20% من موازنة السلطة الفلسطينية، فقدت تأييد الشارع الفلسطيني وبات يُنظَر إليها نهاية 2021 على أنها أداة قمعية للمواطن الفلسطيني، خاصة بعد إقدامها نهاية شهر يونيو/ حزيران الماضي على اغتيال المعارض السياسي "نزار بنات" بطريقة بشعة، وشنّها حملة قمعية ضد النشطاء الفلسطينيين في الضفة، وإطلاقها محاكمات تعسفية تتعارض مع حرية الرأي والتعبير المكفولة في القانون الفلسطيني ضد أكاديميين وحقوقيين وصحفيين فلسطينيين في محاولة لوأد أي صوت فلسطيني معارض لنهج أوسلو السياسي؛ ما دفع صحيفة الغارديان البريطانية في تحقيقٍ أجرته حول اغتيال "بنات" إلى اعتبار الجريمة "لحظة تحوّل عميقة كشفت تواطؤ السلطة مع الاحتلال، واستبداد الحكومة التي يقودها محمود عباس".
غزة.. مراكمة للقوة رغم الحصار
وفي المقابل ورغم استمرار الحصار المشدد على غزة للعام الخامس عشر على التوالي فقد نجحت المقاومة الفلسطينية في مراكمة قوتها، وما زالت حتى كتابة هذا المقال تُجرِي مناوراتها العسكرية بالذخيرة الحية، وتُعزِّز من شراكتها الوطنية مع مختلف الأطر السياسية وأجنحتها العسكرية في غزة، وتُطلق صواريخها التجريبية بين الفينة والأخرى، في رسائل تحدٍّ وتحذير للاحتلال، ودلالة على استمرار المقاومة بتطوير منظومتها الصاروخية استعدادًا للمواجهة القادمة مع الاحتلال.
وقد نجحت المقاومة بتسجيل ذروة إنجازاتها العسكرية في التاسع من مايو/ أيار الماضي، حين قررت الدخول في مواجهة عسكرية شرسة مع الاحتلال تلبية لاستغاثات المرابطين في المسجد الأقصى المبارك، وأهالي حي الشيخ جراح المُهدَّدين بالطرد من بيوتهم في القدس المحتلة، ونجحت إلى حد كبير في دفع حكومة الاحتلال إلى التراجع عن تحقيق أهدافها بطرد المقدسيين من بيوتهم، وأمطرت مدن الاحتلال برشقات صاروخية متتالية على مدار أحد عشر يومًا من المواجهة، في تأكيد بأن سلاح المقاومة هو للدفاع عن الفلسطينيين حيثما وُجدوا، كما استطاعت كشف وَهَن كيان الاحتلال وكسر نظرية التعايش الموهومة حين استنهضت الهوية الوطنية لأهلنا في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948م، واستطاعت تثوير أهل الضفة من خلال اشتباكات شعبية، ومظاهرات عارمة شملت جميع مدن ومحافظات الضفة المحتلة، سمع الاحتلال خلالها اسم قائد المقاومة في غزة "محمد الضيف" يتردد في حناجر الفلسطينيين في جميع شوارع وطرقات الضفة والقدس المحتلّتَيْن.
مراجعات وآفاق مستقبلية
ورغم الإنجازات التي حققها الشعب الفلسطيني على مدار عام 2021 فإن استمرار الانقسام الفلسطيني، واحتكار فريق أوسلو القرار الفلسطيني، وتصاعد التخابر الأمني بين أجهزة عباس الأمنية وجيش الاحتلال، تتطلب مراجعات لا بد منها في أسلوب التعامل مع هذا الفريق الذي أظهرت العديد من استطلاعات الرأي أنه منبوذ عن الكل الوطني، فقد أكد استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية بالتعاون مع مؤسسة "كونراد أديناور" في رام الله منتصف سبتمبر الماضي أن 78% من الفلسطينيين يطالبون باستقالة محمود عباس، في حين عدّ 59% من الفلسطينيين أن السلطة الفلسطينية أصبحت عبئًا على الشعب الفلسطيني، وهذا يتطلب تشكيل جبهة وطنية تضم جميع القوى والفصائل الفلسطينية ذات الثقل في الشارع الفلسطيني، التي ينبغي لها العمل في شتى الطرق لاستعادة الوحدة الوطنية ونبذ الفريق الذي يعيق وحدة الشعب الفلسطيني.
وفي ذات السياق ينبغي العمل على مواجهة تغول جيش الاحتلال ومستوطنيه بشتى الوسائل المتاحة في الضفة والقدس، وفتح مساحات جديدة للمواجهة مع الاحتلال، ولا سيما المواجهة الإلكترونية عبر الشبكة العنكبوتية، وكسر عنجهية الاحتلال الذي لطالما افتخر بقدراته السيبرانية، وإشراك اللاجئين الفلسطينيين والجاليات الفلسطينية في الخارج في مواجهة الاحتلال كلٌّ بما يستطيع من وسائل متاحة تتوفر في أماكن وجود الفلسطينيين في الداخل والخارج.
وعلى صعيد قطاع غزة، فينبغي استمرار مراكمة القوة، وتعزيز العلاقة مع الفصائل الفلسطينية الوطنية، واستمرار العمل على تعزيز صمود المواطن الفلسطيني، والانعتاق من التبعية الاقتصادية لكيان الاحتلال، وعدم الاستسلام للحصار المفروض إقليميًّا على غزة، ويجب العمل بكل الوسائل المتاحة لكسر هذا الحصار الظالم مهما بلغت الأثمان والتضحيات.
وإقليميًّا ينبغي مضاعفة الجهود السياسية لتعزيز العلاقات الأخوية مع القوى المدنية في المجتمعات العربية والإسلامية، ومحاولة اختراق الحصار السياسي الذي تفرضه الأنظمة العربية على قطاع غزة، وبذل جهود مضاعَفة لتعزيز العلاقة مع الدولة التركية بوصفها القوة المسلمة التي تحرص على نصرة أشقائها المستضعفين من العرب والمسلمين، وفي ذات الوقت تعزيز العلاقة مع الجمهورية الإيرانية بما يكفل استمرار تطوّر أداء المقاومة ومدّها بما تحتاج إليه من أدوات ووسائل عسكرية تعينها على كسر عنجهية الاحتلال الصهيوني.