لم تكن تجربة بلدة (بيتا) والقرى المجاورة لها، في التصدي المستمر لمحاولات الاستيطان على جبل صبيح استثناءً في حالة المقاومة الشعبية في الضفة الغربية، فمع اتساع دائرة هجمات المستوطنين على القرى والبلدات الفلسطينية، خصوصًا في شمال الضفة، بات الساعد الفلسطيني يَسْتَدُّ أكثر في استعداده للمواجهة، وصدّ العدوان، وعدم الاكتفاء بأن يكون ضحية، ينشغل في عرض مظلوميته ومناشدة العالم للتدخل.
غير أن نموذج بلدة بيتا تعاظم حتى صار رمزًا ملهمًا للفلسطينيين الواقعين تحت نار الاحتلال ومستوطنيه، وذلك لسبب يسير؛ وهو أنه نموذج ناجح، استطاع أن يردع غول الاستيطان، وأن يكف اليد الصهيونية عن الجبل، وأن يُصعّب على الاحتلال تطوير أي خطة استيطانية في تلك المنطقة، وعلى الرغم من أن الثمن كان غاليًا ودُفِع من دماء الشهداء والجرحى، فإن تلك الحالة المقاومة ما تزال ثابتة في إصرارها على الدفاع عن حقها، وعلى التصدي لمخططات الاحتلال.
ومع تصاعد هجمات المستوطنين على قرى شمال الضفة الغربية مؤخرًا، وتحديدًا بعد عملية نابلس الأسبوع الماضي، وجد الفلسطينيون في تلك القرى أن عليهم أن يتصدروا مشهد المواجهة، وألا يتركوا بيوتهم وممتلكاتهم لقمة سائغة لعصابات المستوطنين التي يزداد خطرها مع مرور الوقت، وقد تطور الأمر في الأيام الأخيرة إلى تكاتف الناس من مناطق عديدة وتوجههم للدفاع عن بلدة برقة التي نالها قدر كبير من الاعتداءات، وساعد على ذلك توظيف وسائل التواصل الاجتماعي لإطلاق نداءات الدعم والإسناد، إلى جانب سماعات المساجد التي تدعو إلى النفير كلما حدث اقتحام أو تهديد بذلك.
مع الوقت، يخلص الفلسطينيون إلى نتيجة وحيدة؛ وهي: أن عليهم وحدهم عبء مواجهة تغوّل الاحتلال ومستوطنيه، ولا رهان إلا على سواعدهم، فالسلطة التي كانوا يظنونها قد تأسست لحمايتهم يتراجع دورها باستمرار حتى يصبح سالبًا بالكامل، وهي لا تبدو مستعدة حتى لتلوّح بسلاحها في وجه الاحتلال ولو على سبيل التهديد، في حين تستنفد كل جهدها ووقتها في ملاحقة الرايات الوطنية واعتقال الأحرار وقمع المعارضين وتعطيل جميع أشكال النشاط الوطني، ولعلّ فهم حدود دورها مؤخرًا قد ساعد الفلسطينيين على تحييدها من وعيهم ومن دائرة أملهم، فتم تجاوزها، ويجري الآن التأسيس لحالة الدفاع الشعبي عن البيوت والممتلكات والتصدي للمستوطنين بمعزل عن انتظار تحرّك السلطة.
ليس منتظرًا أيضًا أن يكف المستوطنون أيديهم عن الترهيب والاعتداء تلقائيا، فالمستوطنون باتوا حالة تهديد منظمة في الضفة الغربية، وقد تمدد خطرهم في الفراغ الأمني الناشئ عن غياب المقاومة المسلحة الفاعلة، فزادت وتيرة عربدتهم واتسعت دائرة أثرها، حتى صارت خطرًا كبيرًا على الناس، وخصوصًا في القرى والبلدات المكشوفة والواقعة على مسار الطرق الالتفافية، والتي يسهل اقتحامها والاعتداء على أهلها.
ولا سبيل اليوم لمواجهة كل هذا إلا بتنظيم حالة الدفاع الشعبية عن تلك القرى، لتغدو واسعة ومستمرة، وتنخرط فيها قطاعات كبيرة من الجمهور الفلسطيني، فالكثرة قوة، والقوة تردع وتخيف المحتل ومستوطنيه، ومع البناء على كل حالة مواجهة إيجابية نجحت في ردع الاعتداءات، سيتمكن الفلسطينيون من جديد من اكتشاف مكامن قوتهم، والمزيد من أسرار صمودهم وبأسهم، ومن الانتقال خطوات واسعة نحو الأمام في مسيرة المقاومة الشعبية الرادعة والمثمرة.