العملية البطولية التي نفذها فدائيون فلسطينيون مساء الخميس الماضي قرب بؤرة "حومش" الاستيطانية شمالي مدينة نابلس في الضفة المحتلة، ونتج عنها مقتل أحد المستوطنين الصهاينة وإصابة آخرَيْن فاجأت حكومة الاحتلال، وأصابت جيشه المحتل وأجهزته الأمنية في مقتل، ذلك أنها جاءت في ظل تصاعد حملات المداهمة والاعتقال اليومية التي يقوم بها جيش الاحتلال في مدن ومخيمات الضفة الغربية ومدينة القدس المحتلة ضمن سياسة "جز العشب" التي ينتهجها الاحتلال في محاولة يائسة للحيلولة دون تمكّن المقاومة الفلسطينية من استعادة عافيتها وإعادة رص صفوفها، وبهدف إحباط أي عملية فدائية التي قد يقوم بها الفلسطينيون ردًّا على انتهاكات الاحتلال المتواصلة بحق أبناء الشعب الفلسطيني، التي أدت إلى قتل ثلاثة وثمانين شهيدًا فلسطينيًا بدم بارد برصاص الاحتلال منذ مطلع عام 2021 في الضفة والقدس المحتلتَين.
الأنباء التي أوردها الاحتلال باعتقاله منفذي العملية البطولية وأن ثلاثة منهم هم أفراد من عائلة واحدة، هما الشقيقان غيث جرادات "17 عامًا" وعمر "20 عامًا" وخالهما المحرر الشيخ محمد جرادات "60 عامًا" يفاقم من مخاوف الاحتلال بانطلاق موجة جديدة من العمليات الفدائية التي تنفذها خلايا فلسطينية لا تستطيع أجهزة أمن الاحتلال التنبؤ بها، فبالنظر إلى طبيعة الأعمار وصلة القرابة بين أبطال عملية نابلس الأخيرة، نجد أنه يصعب على جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية الوصول إلى معلومات دقيقة تمنع تشكيل مثل تلك الخلايا، أو تحول دون تنفيذها مثل تلك العمليات التي أصابت جوهر المشروع الاستيطاني في الضفة المحتلة في مقتل، وهشّمت نظرية الأمن الصهيوني التي تتيح للمستوطنين الصهاينة حرية التنقل بطمأنينة في مناطق الضفة المحتلة، وبدّدت نظرية الردع التي لطالما اعتمد عليها جيش الاحتلال في إرهاب أهالي الضفة، خاصة أنها اتّسمت بتخطيط مُتقَن، وانسحاب آمن للفدائيين الأبطال بعد تنفيذ العملية.
نجاح جيش الاحتلال في اعتقال أفراد الخلية بعد تنفيذ العملية الفدائية التي أعلنت "سرايا القدس" الجناح المسلح لحركة الجهاد الإسلامي المسئولية عن تنفيذها هو أمر مُتوَقَّع بالنظر إلى سيطرة الاحتلال الميدانية بشكل كامل على أراضي الضفة المحتلة، وتشييده بؤرا استيطانية تقطع أوصال المدن الفلسطينية، وإقامته مئات الحواجز العسكرية التي تحاصر كل المدن والبلدات الفلسطينية في الضفة والقدس، ومراقبته جميع الطرقات والشوارع الرئيسة في الضفة على مدار الساعة من خلال كاميرات مراقبة متطورة، وامتلاكه أدوات ووسائل تكنولوجية هائلة توفر له سيطرة تامة على شبكات الاتصالات والإنترنت في الضفة، إضافة إلى المعلومات الميدانية التي تُقدمها طواعية أجهزة عباس الأمنية في الضفة تحت شعار التنسيق الأمني المُقدس، التي تنشط عادةً بعد كل عملية بطولية، وتُقدم معلومات ثبت أنها أدت سابقًا إلى اعتقال أو تصفية فدائيين ومقاومين فلسطينيين في أحداث مشابهة.
من ناحية أخرى فإن تنفيذ عملية نابلس وإيقاعها إصابات وقتلى في صفوف المستوطنين يُعدان فشلًا أمنيًّا ذريعًا وفق نظرية الاحتلال الأمنية، خاصة أنها تأتي ضمن سلسلة عمليات فدائية بطولية تصاعدت في الآونة الأخيرة ردًّا على عدوان الاحتلال وانتهاكاته المتواصلة ضد أهلنا في الضفة والقدس المحتلتين، في ظل نكوص سلطة عباس عن القيام بأي دور لحماية أبناء الشعب الفلسطيني وانشغالها في اعتقال أنصار المقاومة، وملاحقة رايات الفصائل الفلسطينية، ومحاكمتها العشرات من نشطاء الرأي الفلسطينيين المدافعين عن القضية والحق الفلسطينيين، واستخفافها بالكل الوطني وهي تطالب الفلسطينيين بالدفاع عن أنفسهم في مواجهة عربدة المستوطنين الصهاينة في الضفة المحتلة.
ربما الأكثر ذعرًا للاحتلال هو أن موجة العمليات الفدائية التي تصاعدت مؤخرًا تنوعت ما بين عمليات طعن ودهس وإطلاق نار وأدت إلى وقوع إصابات وقتلى في صفوف جيش الاحتلال ومستوطنيه، وأنها جاءت بدافع ذاتي من فلسطينيين اتخذوا قرارًا فرديًّا بالمبادرة إلى الدفاع عن أرضهم وأبناء شعبهم في مواجهة عدوان الاحتلال، وهنا نستحضر أربعة نماذج فلسطينية مُشَرّفة أربكت منظومة الاحتلال الأمنية في الآونة الأخيرة بالنظر إلى طبيعة الفدائيين وأعمارهم، أولى تلك النماذج هو الشيخ الشهيد فادي أبو شخيدم "42 عامًا" أحد أعلام المرابطين في المسجد الأقصى، والخطيب والمعلّم والقيادي في حركة حماس، والذي أبدع في التخطيط والتنفيذ وأطلق رصاصه باتجاه جنود الاحتلال من مسافة صفر وأوقع فيهم قتلى وجرحى، وثانيها الطالبة المقدسية الأسيرة نفوز حماد "14 عاما" التي هُدّدت عائلتها بالتهجير من حي الشيخ جراح بالقدس، واتهمها الاحتلال بطعن مستوطنة صهيونية قبل أن تكمل طريقها لتتلقّى دروسها التعليمية المعتادة في مدرستها، وثالثها الفتى اليافع الشهيد محمد نضال يونس "16 عامًا" الذي نفذ عملية دهس بطولية عند حاجز عسكري أدت إلى إصابة أحد جنود الاحتلال بجراح خطرة، ورابعها الحاجة المُسنّة الأسيرة سعدية فرج الله "65 عاما" التي اتهمها الاحتلال مؤخرًا بتنفيذ عملية طعن أدت إلى إصابة أحد المستوطنين الصهاينة في مدينة الخليل المحتلة، في دلالة واضحة على انخراط كل الشرائح المجتمعية الفلسطينية ذكورًا وإناثًا في مقاومة الاحتلال.
واليوم وفي ظل تصاعد العمليات الفدائية في الضفة والقدس بات من الواضح أن جرائم الاحتلال بحق أبناء شعبنا، وجهود أجهزة عباس القمعية لوأد المقاومة الفلسطينية في الضفة المحتلة باءت بفشل ذريع، وأن السلطة الفلسطينية بشكلها الحالي وتعاونها المشبوه مع أجهزة أمن الاحتلال أضحت تشكل عائقًا حقيقيًّا أمام تحرير الأرض الفلسطينية وانعتاق الشعب الفلسطيني من الاحتلال، وهذا ما أكدته نتائج استطلاع رأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في الضفة وغزة في الثامن من ديسمبر الحالي، حيث اعتبر 56% من المستطلعة آراؤهم أن السلطة الفلسطينية باتت عبئًا على الشعب الفلسطيني، وعبّر 59% عن قناعتهم بأن مشاريع الاستيطان في الضفة قضت عمليًّا على حل الدولتين، فيما أعرب 66% من الفلسطينيين عن رفضهم عودة السلطة للمفاوضات مع الاحتلال، وهي نتائج توضح بعضًا من أسباب تصاعد العمليات الفدائية في الضفة، وتؤكد من ناحية أخرى أن الشعب الفلسطيني الذي فقد الأمل من إمكانية تقويم البوصلة الوطنية لسلطة عباس اتخذ زمام المبادرة للدفاع عن نفسه في مواجهة عدوان جيش الاحتلال وعربدة مستوطنيه.
ختامًا من الواضح أن مخاوف الاحتلال من اشتعال انتفاضة مسلحة في الضفة المحتلة، وانهيار السلطة الفلسطينية قادم لا محالة، فالدراسة التي أجراها مركز الأبحاث الصهيوني "القدس لدراسة الجمهور والدولة" ونشرتها وسائل إعلام الاحتلال مؤخرًا، وأشارت إلى تحذيرات رئيس المخابرات الصهيوني "رونين بار" لحكومة الاحتلال من إمكانية انهيار السلطة الفلسطينية، مؤكدة أن مصلحة الاحتلال تقتضي الحفاظ على سلطة عباس "الفاسدة" – بحسب الدراسة الصهيونية- بسبب جهودها الداعمة للاحتلال في ملاحقة أنصار المقاومة الفلسطينية، فشعبنا الفلسطيني الذي شب على الخوف في الضفة والقدس، بات أقرب إلى إطلاق ثورة عارمة في مواجهة الاحتلال بدأت ملامحها الوطنية تتضح من خلال وحدة الدم والمصير التي أكدتها بيانات فصائل المقاومة الفلسطينية، وبدأنا نشهد شراراتها التي تشتعل شيئًا فشيئًا في أزقة وشوارع مخيم وبلدات محافظة جنين، وستنتشر قريبًا في عموم مدن ومخيمات الضفة المحتلة.