في ضوء نتيجة الانتخابات القروية الجزئية التي أجريت أول أمس في المجالس القروية المصنفة (ج) في الضفة الغربية، وهي التجمعات الصغرى؛ بدا واضحًا أن غاية حركة فتح من تنظيم هذه الانتخابات كانت بالدرجة الأولى تصدير صورة إعلامية عقب النتيجة تقول إن فتح ما تزال بعافيتها، وإنها قد اكتسحت نتيجة الانتخابات، وما أحوج فتح هذه الأيام لمناسبة احتفالية تفرّغ فيها أزماتها، وإن كانت على أنقاض نصر موهوم أو ناقص.
عمليًّا إن حركة فتح لم تكتسح الانتخابات، بل إن قائمة حركة فتح الرسمية (أي فتح محمود عباس) المدعومة من الأجهزة الأمنية خسرت في كثير من المواقع المهمة أمام قوائم ائتلافية أو فصائلية بلا مسمّى واضح، أو فتحاوية منشقّة، لكن حركة فتح كعادتها، لديها طقوس انتخابية خاصة، تدفعها لأن تحتسب لنفسها كل مجلس قروي حُسمت نتيجته بالتزكية أو التوافق، أي دون انتخاب، فتعنى بعدّ المواقع، وإن كانت صغيرة، مضيفة إليها نتيجة كل قائمة تتضمن عنصرًا فتحاويًّا، وإن كان معارضًا لها ومنشقًّا عنها، وإن كان هذا العنصر قد تلقى مع قائمته تهديدًا قبل الانتخابات بهدف دفعه للانسحاب من منافسة قائمة الحركة الرسمية، في هذا الموقع أو ذاك.
ما من شك في أن حركة فتح حين تنظر في مرآة هذه الانتخابات، فترى صورتها وتقرؤها بعيدًا عن المخاتلات الإعلامية؛ ستلمح خسارتها وانحسار التأييد لها، وتشرذم صفها الداخلي، وتحلل عناصرها من الالتزام بالضابط التنظيمي المنادي بدعم قائمة واحدة هي قائمتها الرسمية، ثم ستلمح أن كثيرًا من الناس باتت تتجرأ على منافستها وعلى تجاهل تهديداتها الأمنية التي تجري خلف الكواليس، بغية ضمان انتخابات فتحاوية خالصة لا يجرؤ أحد على منافسة فتح فيها.
غير أن إدراك الحركة هذه الحقائق لن يثنيها عن الاستمرار في مسلسل الأوهام وتجاهل المعطيات الجديدة الحاصلة في الواقع، التي تتوعد الحركة بخسارة مدوية في حال تنظيم انتخابات سياسية بألوان تنظيمية واضحة، وبمنافسة قوية وحقيقية، رغم أن هذه الخسائر المتتالية في رصيد حركة فتح الشعبي لا تحتاج إلى انتخابات لكي تؤكدها، بل يمكن رؤيتها جيدًا على أرض الواقع، وهي بطبيعة الحال لم تأتِ من فراغ، بل من تراكمات الأخطاء والموبقات الوطنية التي ترتكبها أجهزة السلطة يوميًّا ضد كل مخالفي خطها، وضد النشاط الوطني عمومًا.
هذه الانتخابات ستوفر لحركة فتح فرصة للتغني برعايتها العملية الديمقراطية أمام المانحين الغربيين، وللمزاودة على خصومها السياسيين الذين احتجوا على قراراتها المنفردة، بإلغاء انتخابات التشريعي، ثم تفصيل انتخابات بلدية متدرجة، وليس مستبعدًا أن تمضي الحركة قدمًا نحو انتخابات المرحلة الثانية، وربما الثالثة، خصوصًا أن تشكيلة بعض المجالس في التجمعات الكبيرة لا تروق فتح، وتأمل أن تغيّرها بما يناسب الهندسة الجديدة في ولاءات الجسم الفتحاوي، وهي ترى أن الانتخابات باب لهذا التغيير، خصوصًا مع مراهنتها على المقاطعة الرسمية لخصومها، وعلى استعراضات أجهزة أمنها الترهيبية في الشوارع، ومحاولات تعزيز قبضتها الأمنية على جميع مفاصل الحياة.
ولعلّ هذا يدفع باتجاه العودة لنقاش مسألة جدوى مقاطعة الانتخابات القروية الجزئية، فعلى وجاهة دافع المقاطعة، بعد أن تنكرت حركة فتح لكل توافقاتها مع الفصائل؛ ثمة وجاهة أيضًا للرأي القائل بضرورة المساهمة في كسر حدة الاحتكار السلطوي الفتحاوي للمؤسسات الفلسطينية المختلفة، فهذه المؤسسات والبلديات ليست مزارع خاصة للسلطة ولا لفتح، صحيح أنها تبقى غير مؤثرة في المشهد السياسي، ولن تمسّ مساره، لكنها تمسّ حاجات الناس، وهؤلاء عانوا طويلًا من مظاهر الفساد وسوء الإدارة والمحسوبيات واحتكار فرص العمل والتوظيف، ومن المهم أن يعاين الجمهور الفلسطيني نوعيات نظيفة ونزيهة، قادرة على وقف الفساد وهدر المال العام، ولو على نطاق انتخابات محلية، خصوصًا أن خوض هذا المسار سيلزمه مواجهة لسيف التهديد والترهيب الذي تشرعه أجهزة السلطة في وجوه المنافسين، وكسر هذا السيف من شأنه أن يكسر حدّة سطوة السلطة، ويُعلي قيمة الكرامة والشجاعة والتحدي في وعي الناس.