تحركات دبلوماسية في ثلاث اتجاهات قامت بها دولة الإمارات العربية المتحدة خلال الأيام الماضية، أولها زيارة من ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بين زايد لتركيا، وثانيها زيارة الشيخ طحنون بن زايد لطهران، والثالثة دعوة الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ لزيارة الإمارات.
قد يظن المرء للوهلة الأولى أن تحرك الإمارات الدبلوماسي على مسرح المنطقة يشي بأن الإمارات تسعى إلى إعادة ترتيب أوراقها في المنطقة، بما يضمن استعادة روح الإمارات التوافقية الغائبة منذ فترة وتحديداً منذ غياب الشيخ زايد طيب الله ثراه، ويبدو أن الامارات من خلال هذا التحرك أيقنت أن سياسة الاستقطاب الشديدة التي مارستها خلال الفترة الماضية لم تفلح في تحقيق أهدافها، فلا حرب اليمن نجحت في تحقيق شيء يذكر، ولا مقاطعة قطر أثرت في قوة حضور قطر الاقتصادية والسياسية، ولا استعداء تركيا جلب أي مصلحة سياسية أو اقتصادية للإمارات، وربما كانت درة تحرك الإمارات الأخير هو زيارة الشيخ طحنون بما يمثله من شخصية أمنية مؤثرة إلى طهران ولقائه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي وكذلك علي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني.
في العمل السياسي يقال دائماً إنه لا توجد عداوات دائمة ولا صداقات دائمة وإنما توجد مصالح دائمة، فما المصالح التي تتغنى بها الإمارات من خلال هذا التحرك وفي هذا الوقت بالذات؟ وهل هناك رغبة أمريكية في هذا التحرك أم أن الأمر لا يعدو نشاطاً سياسياً إماراتياً.
حديث الشيخ محمد بن زايد في حديثه لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط ذكر أن إبرام اتفاقات إبرهام كان له عدة أسباب، أولها: أن هذه الاتفاقات من أجل الفلسطينيين أنفسهم، وثانيها: إرسال رسالة سلام للعالم، وثالثها: أن مكاسب السلام أكثر بكثير من حالة الحرب والعداء.
حديث محمد بن زايد يأتي بعد أن وصلت العلاقات بين الكيان والإمارات إلى حد إجراء مناورات عسكرية جوية مشتركة بين سلاح الجو الإماراتي وسلاح الجو الصهيوني، وكذلك تأتي هذه التصريحات في ظل إصرار شديد على شراء طائرات إف 35 الأمريكية وهي الأكثر فتكاً في ترسانة الطائرات الأمريكية، ولذلك يبدو حديث محمد بن زايد النظري يتناقض مع ما تقوم به الإمارات حتى الآن على صعيد طبيعة العلاقات التي تحكم عملها مع دول المنطقة.
على أي حال فإن الدور الذي تقوم به الإمارات حالياً يبدو أنه آت في إطار نفس الأهداف التي حاولت الإمارات تحقيقها خلال الفترة الماضية باستخدام الوسائل السياسية والعسكرية الخشنة، وعندما فشلت فشلاً ذريعاً في ذلك ومع تغير الإدارة الأمريكية التي يبدو أنها سحبت الضوء الأخضر الذي منحته الإدارة السابقة للإمارات، بدأت الإمارات في تغيير بعض وسائلها الخشنة التي أثبتت فشلها والعمل من خلال وسائل أكثر نعومة بعضها اقتصادي وبعضها له طابع أمني، ولكن تصب هذه التحركات في اعتقادي في تحقيق ذات الأهداف، ولكن في إطار استراتيجية تقليل الخسائر التي نتجت عن استخدام وسائل كلفت الإمارات مليارات الدولارات ولم تفضِ إلى شيء ملموس، وعليه فإن تصور عودة الإمارات إلى انتهاج سياسة توافقية كما كانت إبان عهد الراحل زايد غير واردة في ظل القيادة الإماراتية الحالية، خاصة في ظل الإصرار الشديد من القيادة الإماراتية على المضي قدماً في إقامة علاقات تتجاوز "الطبيعية" إلى علاقة حلف عسكري أمني هو بالضرورة يعمل ضد محور المقاومة في المنطقة، ولذلك تأتي زيادة الشيخ طحنون مستشار الأمن القومي الإماراتي لإيران ربما لتهدئة مخاوف إيرانية مشروعة من السماح للولايات المتحدة و(إسرائيل) من استخدام الأراضي الإماراتية لنشاطات عسكرية ضد إيران، خاصة في ظل التهديد الصهيوني الأخير وغير المعهود بأن الخيار العسكري ضد إيران خرج من قيد الدراسة إلى واقع الفعل.
الأمر الآخر الذي أدى إلى قيام الإمارات بهذه الخطوات هو الشعور بالعزلة وفقدانها المتزايد لدور إقليمي كانت تسعى للقيام به، ولذلك تحاول الإمارات من خلال هذه التحركات ترميم ما أفسدته سياستها خلال الفترة الماضية، ولكن رغم كل هذه التحركات أتصور أن الإمارات لن تجني الثمار التي ترغب بها، وذلك لأن الإمارات ستبقى على الدوام أسيرةً لطبيعتها الحيوسياسية التي لن تمكنها من القيام بأي دور محوري في المنطقة رغم محاولة قيادتها للظهور بمظهر اللاعب القوي، فلا هي من حيث المساحة أو عدد السكان أو العمق التاريخي والثقافي مؤهلة للقيام بذلك الدور، وهذا ما كان يعيه الشيخ زايد تماماً، ولذلك اتسمت سياسته طوال فترة حكمه بالسياسة التوافقية التي تجنب الإمارات الصراعات والنزاعات التي قد تؤثر فيها كدولة صغيرة ناشئة، ولقد نجحت هذه السياسة أيما نجاح فارتقت بالإمارات من دولة صحراوية إلى دولة حضارية متطورة من خلال استخدام الوفرة المالية الناتجة عن تصدير النفط، هذه السياسة الحكيمة التي افتقدها قادة الإمارات حالياً حينما ظنوا أن الوفرة المالية قد تمنحهم دوراً أكبر من إمكانيات الدولة فكانت النتائج وخيمة.