أجاز البرلمان البريطاني، أخيراً، مذكرة وزيرة الداخلية، بريتي باتيل، القاضية بتصنيف حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إرهابية، مع تشديد العقوبات على مؤيديها وداعميها في الأراضي البريطانية، بينما كان لافتاً أن المذكّرة خلت تماماً من أول تصريحات باتيل عن أسباب التوجه الجديد ضد الحركة وخلفياته، والتي كانت قد أشارت فيها إلى إعلان توجهها الجديد (في واشنطن، 19 نوفمبر/ تشرين الثاني) أن القرار ضد "حماس" مرتبط بتصاعد معاداة السامية في بريطانيا، وتأثير الحركة على حالة الخوف والقلق التي يعيشها اليهود في البلاد، حسب تعبيرها الحرفي. إلا أن المذكرة الرسمية التي قدّمت للبرلمان تضمنت ثلاثة أسباب لا علاقة لها ببريطانيا أو اليهود فيها، وشملت إطلاق الحركة آلاف الصواريخ على إسرائيل في أثناء معركة سيف القدس في مايو/ أيار الماضي، ما تسبب في مقتل طفل إسرائيلي، وإطلاق البالونات الحارقة على المستوطنات المحيطة بقطاع غزة، وامتلاك الحركة أسلحة ومعدّات عسكرية ومعسكرات للتدريب وما إلى ذلك. ومبدئياً؛ يعني هذا أن القرار البريطاني مرتبط بصراع حركة حماس مع إسرائيل، ولا يتعلق لا من قريب ولا من بعيد ببريطانيا واليهود فيها، علماً أن الحركة لا تملك حضوراً تنظيمياً هناك، وإنما تملك متعاطفين معها من الجاليات العربية والإسلامية، وحتى من مواطنين بريطانيين، ضمن تعاطف عام مع القضية الفلسطينية، ورفض الممارسات الإسرائيلية غير الشرعية ضد الشعب الفلسطيني، بما فيها الاحتلال نفسه.
في تفنيد القرار وتصريحات الوزيرة، تكمن الإشارة إلى أن "حماس" ليست معادية لليهود، وحسب الوثيقة السياسية التي أصدرتها الحركة في عام 2017، وباتت بمنزلة ميثاق جديد لها، فإن مشكلتها مع الاستعمار الصهيوني لفلسطين لا مع اليهود بوصفهم يهوداً، كما قبلت الحركة بإقامة دولة فلسطينية في حدود يونيو/ حزيران 1967 في تماهٍ واضح مع الشرعية الدولية وقراراتها، بما في ذلك حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى المدن والقرى والبلدات التي هجّروا منها بالقوة الجبرية المسلحة في 1948. وتكمن المفارقة في هذا العام تحديداً (2017)، حيث قرّر الاتحاد الأوروبي، وعلى عكس الواقع، اعتبار حركة حماس "إرهابية" بجناحيها، العسكري والسياسي، بينما رفضت بريطانيا، وتمسّكت فقط باعتبار الجناح العسكري (كتائب عز الدين القسام) كذلك وفق القرار الصادر عنها في عام 2001. وكان هذا الأمر قد أتاح لرئيس الوزراء البريطاني والمبعوث السابق أيضاً للجنة الرباعية إلى فلسطين، توني بلير، عقد لقاءات مكثفة مع قيادة حركة حماس في الدوحة في عام 2015، وحتى دعوة رئيس مكتبها السياسي آنذاك، خالد مشعل، إلى زيارة لندن، علماً أن بلير أبدى ندمه فيما بعد على استبعاد الحركة من المفاوضات وعملية التسوية مع إسرائيل، الهادفة إلى التوصل إلى اتفاق سلمي ونهائي على قاعدة حلّ الدولتين، كونه فهم أن "حماس" لاعب مركزي ورئيسي، ولا يمكن تجاهلها أو تجاوزها في أي شيءٍ يتعلق بالقضية الفلسطينية.
وبالعودة إلى الأسباب الثلاثة التي أدرجتها الوزيرة في مذكرتها، ويتعلق الأول منها بإطلاق حماس آلاف الصواريخ على إسرائيل في أثناء معركة سيف القدس أيار/ مايو الماضي، ما أدى إلى مقتل طفل إسرائيلي، متغاضية عن ارتكاب الاحتلال جرائم حرب موصوفة ضد المدنيين، وقتل أكثر من 250 شخصاً، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وشطب عائلات بكاملها من السجل المدني، إضافة إلى قصف متعمّد لأبراج وبنايات ومناطق سكنية، كما حصل مع برج الجلاء، من دون أدلة، اللهم إلا الرغبة في الانتقام وإرضاء غريزة الدم للجمهور الإسرائيلي، وإحباط الشعب الفلسطيني والحاضنة الشعبية في غزة لحركة حماس، مع الانتباه إلى أن الأخيرة دافعت عن نفسها وعن الغزّيين والمقدسيين ضد التهجير القسري والتغيير الديموغرافي والعرقي غير الشرعي في حي الشيخ جرّاح ضمن حق أصيل لها بمقاومة الاحتلال وفق الشرعية الدولية بالوسائل المتاح لديها، بما في ذلك إطلاق الصواريخ.
أما البالونات الحارقة ضد المستوطنات المحيطة بغزة فمتوقفة منذ سنوات (استؤنفت أياماً فقط أخيراً)، وهي تمثل فعلاً مقاوماً بامتياز من نشطاء ومواطنين، وتلامس تخوم المقاومة الشعبية السلمية ضد الاحتلال نفسه، كما ضد الحصار غير الأخلاقي وغير الشرعي الذي خنق غزة، وحوّلها فعلاً إلى مكان غير قابل للعيش، كما تقول الأمم المتحدة. وهنا يمكن التساؤل فقط عن ردّ فعل أناسٍ حوّلت إسرائيل وطنهم إلى مكان غير قابل للعيش. وفيما يخص امتلاك "حماس" معسكرات تدريب وأسلحة، فهذا حق أصيل لها كحركة مقاومة ضد الاحتلال، ضمن حقها المشروع في الدفاع عن الشعب الفلسطيني، وفق الشرائع والمواثيق الدولية.
هنا لا بأس من التذكير بموقف الوزير السابق والنائب الحالي عن حزب المحافظين، كريسبين بلانت، الذي تنتمي إليه الوزيرة باتيل أيضاً، حيث ترافع في البرلمان ضد القرار، مؤكّداً حق "حماس" في مقاومة الاحتلال، بما في ذلك إطلاق الصواريخ، على الرغم من تفضيله وسائل أخرى أكثر نجاعة وفاعلية، دفاعاً عن القضية العادلة وفق المواثيق والاتفاقيات الدولية، وبما يتفهمه ويتقبله العالم. انتقد بلانت القرار كذلك، من زاوية أنه يقلص فرص بلاده في الحضور فلسطينياً، إن كان فيما يتعلق بتقديم المساعدات لغزة المحاصرة أو الدفع بعملية التسوية من أجل التوصل إلى اتفاق سلام نهائي في فلسطين. وبناء عليه، يمكن استنتاج أنّ مذكّرة باتيل تستند إلى أسس واهية، وبالإمكان نقضها بسهولة، بما في ذلك الترافع ضدها أمام القضاء البريطاني. أما الخلفيات الحقيقية لها فتتمثل بمواقف الوزيرة المنحازة ودعمها الأعمى لـ(إسرائيل) الذي وصل إلى حد إقالتها من منصبها الوزاري قبل سنوات، بعد الكشف عن فضيحة إجرائها اتصالاتٍ سرّية مع (إسرائيل) -بعيداً عن مهام منصبها- والسعي، بل التواطؤ، لتحويل مساعدات مالية إلى جيش الاحتلال المتهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين.
يعبر القرار البريطاني كذلك، ولو في سياقه العام، عن تنامي قوة اليمين المتطرّف والعداء للإسلام في أوروبا والغرب بشكل عام، علماً أن بريطانيا تعيش الآن تحت قيادة بوريس جونسون، عرّاب باتيل وداعمها، الذي يعتبر النسخة الأوروبية من الرئيس الأميركي المنصرف دونالد ترامب.
من جهة أخرى، يسعى القرار بوضوح إلى دعم الحكومة الإسرائيلية الجديدة وتقويتها وتقديم هدية أو إنجاز تفاخر به قادتها ورموزها، إذ جرى الكشف عن طلبٍ قدّمه رئيس الوزراء نفتالي بينت، إلى نظيره بوريس جونسون، نهاية أكتوبر/ تشرين أول الماضي، لتجريم "حماس" ومناصريها، كما كشف عن تقديم جهاز الأمن العام (الشاباك) معلومات ومعطيات لنظيره البريطاني عن أنشطة إرهابية مزعومة للحركة، بما في ذلك في بريطانيا نفسها، وهي تشبه بالتأكيد الأدلة المفبركة عن قصف برج الجلاء في غزة، وتصنيف ست منظمات حقوق إنسان ومجتمع مدني فلسطينية إرهابية أيضاً. ويمثل القرار البريطاني أيضاً جائزة ترضية لإسرائيل نيابة عن الولايات المتحدة لتمرير إعادة افتتاح القنصلية الأميركية في القدس المحتلة في المرحلة المقبلة. ويتماهى مع السياسة الأميركية العامة ضد "حماس"، خصوصاً أن أول إعلان عنه جاء من واشنطن في أثناء وجود الوزيرة باتيل في واشنطن.
وفي السياق الأميركي - البريطاني، يهدف القرار أيضاً إلى زيادة الضغوط على الحركة لإشغالها بنفسها، وإجبارها على التموضع في موقع الدفاع والقبول بالترتيبات الجديدة المطروحة عليها، والمتضمّنة مساعدات اقتصادية واجتماعية، للحفاظ على التهدئة في غزة، وعدم انفجارها في وجه الاحتلال والإقليم والمجتمع الدولي، كما حصل في مايو/ أيار الماضي.
أما في تأثيرات القرار الجديد على "حماس"، فتجب الإشارة إلى أن بريطانيا اعتبرت كتائب القسام إرهابية منذ عام 2001، بينما صنّف الاتحاد الأوروبي الحركة كلها إرهابية في عام 2017، بعدما سبقته أميركا قبل سنوات، إلا أن هذا كله لم يمنعها من زيادة قوتها وحضورها، بما في ذلك التحوّل إلى قوة المقاومة المركزية والرئيسة في فلسطين، كما الانتصار في الانتخابات التشريعية في عام 2006، وهو معطىً تقول استطلاعات الرأي إنه قابل للتكرار في أي انتخابات مقبلة.
في المقابل، سيؤثر القرار سلبياً على الحضور البريطاني بالقضية الفلسطينية، وقدرة لندن على التأثير الإيجابي، كما صرّح النائب بلانت علناً في مجلس العموم. ووفق قناعات وخلاصات توني بلير القائلة بخطأ تجاهل حركة حماس واستبعادها من الجهود الأوروبية والدولية الهادفة إلى التوصل إلى اتفاق سلام نهائي في فلسطين، باعتبار ذلك مصلحة إقليمية وأوروبية ودولية على المدى البعيد.