نقلت هيئة شؤون الأسرى والمحررين في تقرير أصدرته اليوم الخميس، تفاصيل يرويها الأسير يعقوب قادري أحد أبطال نفق الحرية أثناء عملية انتزاع حريتهم من معتقل "جلبوع".
وفيما يلي تفاصيل ما سرده الأسير قادري لمحامية الهيئة التي تمكنت من زيارته بعزل سجن "ريمونيم":
"بمناسبة دخولي العام التاسع عشر في سجون الاحتلال أتوجه الى أبناء شعبي الفلسطيني عبر فلسطين التاريخية من صفد شمالاً حتى رفح جنوباً، كافة قرانا ومدننا وحاراتنا وشوارعنا في فلسطين المحتلة وإلى أهلنا في غزة والشتات وخاصة الأردن وسوريا ولبنان وإلى كل أحرار العالم بأسره وكل من يقف إلى جانبنا ومساندتنا في هذه القضية العادلة.
تمر هذه الذكرى كل عام مرور الكرام دون أن يكون لها معنى، لكن هذه المرة كانت إطلالتي عليكم استثنائية لأنكم تعلمون الحدث الكبير الذي كنت جزءا منه وهي عملية التحرير من النفق "عملية الطريق الى القدس" بتاريخ 6.9.2021 حيث أحببت أن أتكلم عن جزء بسيط مما حصل معنا وتحديداً عند خروجنا من عين النفق و بدء مشوار الحرية الذي استمر لمدة 5 أيام جبت به أرض الشمال عرضاً وطولاً، وكم كانت هذه الرحلة محفورة في ذاكرتي وأحببت اليوم أن أنقلها لكم ببعض التفاصيل التي مازلت أتذكرها.
فما إن خرجت من عين النفق بعد خروج المجاهدين مناضل نفيعات ومحمد العارضة وكنت أنا الثالث وزكريا الرابع وأيهم الخامس ومحمود السادس، دهشت وصدمت عندما شاهدت نفسي أقف خارج السجن بلا قيود ودون أن أسمع أصوات غليظة تنادي "عدد..عدد" والأبراج من خلفي خالية من السجانين ومن كاميراتهم ومن كلابهم البوليسية ومن تفتيشاتهم الليلية والنهارية.
كنت في حالة ما بين الصاحي والنائم وقلت في نفسي:" هل أنا حر؟ أم أنني احلم؟ لا يا يعقوب.. أسأل وأجاوب نفسي.. لا يا يعقوب أنت حر بالحقيقة، تارة أبكي وتارة أضحك وتارة أسجد وتارة أشكر الله على هذه المكرمة، ناولني محمد العارضة قنينة ماء وشربت منها القليل وبدأت بإزالة الاكياس البلاستيكية الموجودة على رأسي وقدماي وأنا أنظر إلى السماء دون أسلاك أو سقف، أشاهد النجوم مباشرة وإذا بزكريا الزبيدي يضع نفسه بجانبي ويطلب مني قنينة الماء فناولته إياها وهو كان في قمة سعادته، وبدأ باقي الشباب بالخروج حتى آخرهم، وعلى الفور توجهنا لقطع شارع بيسان الملتصق بسجني الجلبوع وشطة ودخلنا إلى قطعة أرض مزروعة بالقطن وهي بمسافة عشرات الكيلومترات قطعناها نهرول، نضحك، نتسامر ونقول لقد فعلناها أخيراً، ثم ما أردناه بعد عام كامل ليس بفضلنا بل هو بفضل الله عز وجل، ثم واصلنا المسير حتى وصلنا الى بيارة بوملي تبعد حوالي 15 كيلو عن سجن الجلبوع، هناك قمنا بتغيير ملابسنا وتناولنا أول طعام خارجي وهو حبات البوملي من هذه البيارة وناولت زكريا وأيهم قداحة كانت معي فقاموا بإشعال سجائرهم لأول مرة في الهواء الطلق.
واصلنا المسير وسرنا بين البيارات والحقول والبساتين حتى وصلنا إلى قرية الناعورة وهناك استرحنا قليلاً في مسجد القرية، وكان قد حان أذان الفجر فصلينا في أحد أروقته، تناولنا الماء البارد وقمنا بغسل ملابسنا ومن هناك تفرقنا كل اثنين مع بعضهما البعض فكنت رفيق محمود العارضة هكذا كنا قد اتفقنا سابقاً وخرجنا أنا ومحمود الى التلال والجبال القريبة من الناعورة ونحن متعبون لشدة الساعات التي قطعناها ولكننا صعدنا إلى هذا الجبل وسرنا عدة كيلومترات، وأثناء سيرنا دخلنا إلى أحد الأحراش حيث تواجدت به مزرعة أبقار كبيرة فالمضحك أن محمود العارضة طرح السلام على تلك الأبقار وقال "السلام عليك أيتها الأبقار، نحن أصدقاء أنا ويعقوب ولسنا أعداء، لا تحاولوا إيذائنا ولن نؤذيكن أبداً فأمنت أنا على حديثه وضحكت وقلت لهن :"صدقن ما يقول فنحن أصدقاء ولسنا أعداء "فبدأت الابقار بفسح الطريق لنا وسرنا قرابة ال 300-400 م وإذ بنا نتفاجأ بأننا بالقرب من معسكر إسرائيلي يتواجد به عشرات الجنود الإسرائيليين فقلت لمحمود "هنا سوف نضع رحالنا لأن الاحتلال لن يصدق بأننا نجرؤ على الاقتراب من معسكراتهم.
ويواصل الأسير "قادري" رسالته بالقول: "بالفعل دخلنا تحت إحدى الأشجار الكبيرة القريبة من المعسكر وبالقرب منها جدار ترابي حوالي 3 أمتار فقمنا بوضع كمية كبيرة من القش الناشف وبعض الأغصان الناشفة على شكل مغارة تحت الشجرة ووضعنا حقائبنا تحت رؤوسنا وبدأنا نتحدث عما جرى معنا حتى هذه اللحظة، وكنا قد اتفقنا أنا ومحمود هو يتابع الأخبار باللغة العبرية وينقل لي ما يحصل وأنا أتابع الأخبار باللغة العربية وأنقل له ما أسمع لأن كل واحد منا كان له جهاز ترانستور أو راديو صغير في حقيبته وهذا ما تم وكنا سعيدين جداً ونحن نسمع كافة المحطات تتناقل هذا الحدث الكبير بكل اللغات والاحتلال يبحث عنا في كل مكان دون جدوى، بقينا طيلة النهار حتى الليل وعندما دقت الساعة السابعة مساء قمنا بحزم أغراضنا وأمتعتنا وقررنا المسير.
سرنا ليلة كاملة حتى وصلنا إلى قرية سولم، مررنا بالقرب منها شربنا الماء وهناك أكلنا الصبر لأول مرة وواصلنا المسير دون أن ندخل إليها حتى مررنا بمدينة العفولة الصهيونية المقامة على أراضينا ومن الجراءة لدينا أننا دخلنا الى الحديقة الخلفية لأحد المنازل دون علم أهله وشربنا الماء وتناولنا بعض من حبات الليمون وبعض من حبات الرمان المتواجدة في حديقتهم الخلفية وخرجنا متوجهين الى الجبل المجاور وكانت الساعة الثانية عشرة ليلاً، حيث قررنا المبيت قرب مستوطنة العفولة على بعد عشرات الأمتار من منازلها، نمنا هذه الليلة هناك، وفي الصباح قررنا البقاء حتى المساء فكنا نصلي تارة جماعة وتارة فرادى هناك، وعندما خرج الضوء صباحاً شاهدت شجرة فسألت محمود عنها فضحك وقال هذه شجرة الزعرور الفلسطينية وأكلنا منها حتى شبعنا وكانت بطعم لذيذ جداً وكان بالقرب منها أيضاً شجرة السماق الفلسطيني، أكلت القليل حتى أتذوق الطعم فقط.
بقينا نهاراً كاملاً حتى قرابة الساعة السابعة مساء وواصلنا المسير ليلاً وإذا بنا نحط رحالنا بالقرب من قرية اكسال هناك حصل جدال بيني وبين محمود أهي قرية عربية أم إسرائيلية وكان ترجيحي أنها قرية يهودية لأنني شاهدت على مدخلها عمارة كبيرة جداً ولم يكن بعلمي أنني مكثت قرابة ال 18 عاماً بالسجن وأن الحياة تغيرت تغيراً كاملاً، نمنا هذه الليلة بالقرب من قرية اكسال وتفاجئنا عند الساعة الرابعة والنصف بأن عدة مساجد تصدح بالأذان فضحك محمود وقال لي "ألم أقل لك أنها قرية عربية؟" فقلت له: يا أخي هذا ما حصل.. في الصباح قام محمود لقضاء حاجته وإذا به يضحك وينادي علي: يا يعقوب.. يا يعقوب.. تعال وانظر، وإذا بعش حمام بري وبه بيضة فقال هذا حمامنا الفلسطيني الأصلي، تناولنا البيضة وقمنا بتقبيلها وارجاعها الى مكانها وعدنا الى مخبأنا حتى الساعة الثامنة مساء، وبدأنا المسير ليلاً باتجاه القرية وما إن وصلنا أطرافها وإذا بكميات كبيرة من الصبر مزروعة على أطراف أحد شوارعها الفرعية، أكلت عدة حبات ما بين الـ 5-6 أكواز من الصبر ومحمود على ما أذكر تناول حوالي 12 كوز وقال صدقني لم أشبع لكن لا أريد الاكثار فضحكت بأعلى صوتي: أنت أكلت 12 كوز من الصبر ولم تشبع فماذا لو أكلت أكثر؟! شربنا قليل من الماء وتوجهنا إلى القرية وقبل وصولنا إليها بعدة أمتار بدلنا ملابسنا وقمنا بلباس شورتات قصيرة وشباحات وطواقي على الرأس ووضعنا حقائبنا تحت إحدى أشجار الزيتون ودخلنا إلى القرية.
ويكمل الأسير "قادري": هناك طلبنا الماء من أحد المارة من قرب منزله فناولنا عدة زجاجات صغيرة من الماء المعدنية وواصلنا الدخول الى القرية، وأثناء سيرنا شاهدت صبياً صغيراً يبلغ 5-6 أعوام يسير مع أمه وعدة أطفال آخرين أكبر منه فناديت هذا الطفل حملته وقبلته عدة مرات وكأنني أحمل طائر الطنان الصغير الجميل وسألته ما اسمك؟ فأجابني (لا اريد ذكر الاسم) وسألته هل تعرفني؟ فقال: لا قلت له أنا ورفيقي الان تبحث عنا كل الكرة الأرضية فتبسم الطفل دون أن يفهم المغزى والمعنى من قولي وعاد إلى أمه فسلمت على أمه من بعيد وواصلت طريقي انا ومحمود وخرجنا من القرية.
أثناء خروجنا كان هناك عرس بالقرية وكان يحييه الزجال الفلسطيني المعروف موسى الحافظ وأنا من المعجبين به وبغنائه وبزجله الشعبي فطلبت من محمود التوقف بالقرب من القاعة التي كانت قريبة من الأحراش التي نمر به حيث استمعت لمدة ساعة لهذا الزجل الذي أطربني وأسعدني، ثم واصلنا المسير باتجاه مدينة الناصرة، وبالطريق مررنا على أحد المزارع وشاهدنا بعض أشجار التين والعنب حيث أكلنا منها وواصلنا الطريق ودخلنا إلى مزرعة أخرى وإذ بها الرمان الفلسطيني قد وضع رحاله وكأنه ينتظرنا من أجل أن نأكله، أكلنا ما شاء الله أن نأكل وحملنا بعض الحبات بحقائبنا وواصلنا المسير حيث قطعنا الشارع الرئيسي وانتقلنا باتجاه المدينة، وقبل الوصول إلى تخومها دخلنا إلى إحدى بيارات البرتقال والمندلينا فأكلنا منها وبدأنا بصعود جبال الناصرة.
نمنا بالقرب من حي الفاخورة دون أن نعلم، وكانت ليلة جمعة، وفي النهار سمعنا خطبة الشيخ بالكامل وصلينا بالمكان الذي اختبأنا به معهم صلاة الجمعة وبقينا لغاية حوالي الساعة السابعة مساء، واصلنا المسير حيث التقينا ببعض الشباب وتحدثنا معهم عن بعد وطلبنا منهم أن يرشدونا إلى جبل القفزة ففعلوا ذلك، سألناهم عن المكان الذي نتواجد به فأخبرونا أنه حي الفاخورة، واصلنا المسير حتى جبل القفزة محاولين العثور على بعض العمال الفلسطينيين لمساعدتنا وإرشادنا على الطريق أو إيصالنا لمدينة جنين فلم نجد أحدا، وعدنا أدراجنا بالدخول لمدينة الناصرة وأثناء سيرنا على الأقدام بالقرب من بداية الناصرة تفاجأنا بسيارة شرطة صهيونية وبها شرطيين عربيين، قفزوا من السيارة ووجهوا مسدساتهم على رؤوسنا وطلبوا منا القاء الحقائب وهنا انتهى المشوار في رحلة ذكرت لكم جزءاً من تفاصيلها ولم أذكر الكثير بعد خلال الخمسة أيام.. هناك تفاصيل أخرى كثيرة جميلة انسانية ومشوقة لو تسمعونها لذرفت دموعكم، ومن الممكن أن تكون لديكم أمورا طبيعية وبسيطة ولكنها بالنسبة لي كبيرة جداً لشخص حُرم من كل هذا ولم يعرف عنه شيء منذ أكثر من 19 عام.
أنا أحبكم جميعاً فأنتم في سويداء القلب وفي حدقات العيون واللقاء قريب إن شاء الله على أرض جنين وقريتي بير الباشا بإذن الله تعالى".