فلسطين أون لاين

لماذا تلاحق أجهزة السلطة الراية؟

لم تحدث فجأة، ولا كانت بلا مقدمات، تلك الحرب البائسة التي تشنها أجهزة أمن السلطة على الراية الخضراء في عموم الضفة الغربية، وتطال مواكب وأماكن استقبال الأسرى المحررين، أو عند رفعها في الفعاليات الوطنية المختلفة، كجنازات الشهداء، وقد انضمت حديثًا إلى لائحة الحظر رايات الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، في حالة تبدو جديدة وغريبة في مداها وفي عدوانها على ما كان يعدّ من المحرمات الوطنية، كالاعتداء على الأسرى المحررين وذويهم.

لكنّ الظاهرة في جوهرها ليست جديدة، وإن بالغت أجهزة السلطة في تماديها واستخفافها هذه المرة، إذ يحيلنا هذا السلوك إلى الدور الوظيفي والطبيعي لهذه السلطة، وهو دور مناوئ لكل القيم الوطنية، ومعطّل لجميع إمكانات التقدم في مسيرة التحرر، ومجهض لكل محاولات إنعاش الروح النضالية للجمهور الواقع رغمًا عنه في مجالات سيطرة السلطة وأجهزتها، ودعك من طفرات (الوطنية) المؤقتة أو النضّال المُدّعى التي تنشأ تحت ضغط الأحداث الكبيرة التي تجد السلطة نفسها مضطرة إلى مجاراتها أو ركوب موجتها مؤقتًا، فينخدع بها الحالمون، ويشرعون في رهاناتهم الرومانسية الخيالية على إمكان تعافي مشروع السلطة العليل وعودته للخط الوطني، ودعك أيضًا من شعارات حماية المشروع الوطني وبناء الدولة والسيادة وكنس الاحتلال وغير ذلك، فهذا كله لزوم ستر جوهر الدور، وتسفيه الوعي الجمعي العام.

ومن جهة أخرى، هذه الحملة القديمة الجديدة هي جولة أخرى من جولات التفاهة العبثية التي تتقن أجهزة السلطة تنفيذها أيما إتقان، وتجند لأجلها كل طاقاتها، وتستنفر جميع قواها، وتحشد لها استعداد عناصرها التام، بعد تعبئتهم معنويًّا بجرعات الحقد المركزة على (الخصوم الأغيار) واختلاق أوهام مخططات السيطرة على الضفة، وكل هذا لإبقاء المعنويات المطلوبة لتنفيذ هذه الحملات عالية، والدافعية حاضرة، والهمة مستنفدة على آخرها، فكيف سيبقى بعد كل هذا اكتراث أو وقت أو مجال لخوض معارك (ثانوية) في عرف السلطة مثل معركة الدفاع عن القدس، أو مواجهة الاستيطان ودفع أذى المستوطنين، أو التصدي لاقتحامات الاحتلال اليومية، أو حماية المقاومة الشعبية؟!

تقول أيضًا هذه الحرب على الراية أو على رايات فصائل المقاومة عمومًا إن الأمر انعكاس لحال السلطة وما وصلت إليه، ولمستوى إفلاسها، وحجم هلعها، ومدى تخبطها وارتباكها وهي تشهد تناقص حظوظها شعبيًّا وانكشاف مشروعها وبؤس خياراتها، فكان لا بد من مواجهة الركود هذا بافتعال أزمة وإطلاق حملة، وإشعال فتيل حرب صغيرة، لكنها حرب تناسب مقاسها الواطئ، وانعدام الفعل المثمر في عالمها، في حين يعربد سلاح الانفلات والمشاكل العائلية منتشيًا وبعيدًا عن نطاق هذه الحملات الأمنية لأجهزة السلطة.

ماذا تستفيد وما الذي ستجنيه السلطة وقيادة حركة فتح من كل هذا؟ عمليًّا لا شيء، فالالتفاف حول الراية يزداد ورمزيتها تتأكد، لأن من أو ما تعاديه السلطة (من أشخاص ورمزيات ومظاهر) يتخذ تلقائيًّا مكانته الرمزية بين الناس، أما حماس فلن يُضعف وجودَها حجبُ راياتها عن الأنظار، ولو كان ذلك ممكنًا لحصل منذ سنوات طويلة، إذن هي حرب تنفيس الأحقاد ليس إلا، وصناعة معارك عبثية لاستعراض العضلات في ميادينها، حتى لو كانت عناصر السلطة تواجه فيها المحررين من سجون الاحتلال وذويهم، في لحظاتهم الأهم، وهي لحظات الحرية والانعتاق، وبعضهم قضى نحو 20 عامًا في السجن، فكان في هذا التعاطي الشائن من أجهزة السلطة مع موكب استقبال الأسير تلخيص معرفي عمليّ له، يُجمل له كيف تغيّر الحال وإلى أين آلت الأمور.

حصيلة معركة السلطة العبثية هذه هي صفر في رصيدها على صعيد المكاسب، لكن جعبتها وسجلّها سيمتلئان بمعاني العار كلّها، ولن يُنسى لها هذا الفعل الصغير في حجمه، الشنيع في مغزاه، وفي ارتداد أثره عليها، وكل ما في الأمر أنه سيضيف مثلبة جديدة إلى تاريخها الطويل الذي ظل يراكم المثالب والنقائص وصنوف العار.