فلسطين أون لاين

ينامون على أمل إعادة صرف "شريان الحياة"!

تقرير مرضى "الشؤون الاجتماعية" يسمعون أنات الوجع والجوع في آنٍ واحد

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

ليس ألم المفاصل وحده هو الذي ينخر محمود اليازجي (42 عامًا)، وهو من ذوي الإعاقة الحركية، نتيجة عدم قدرته على السفر لإجراء عملية جراحية عاجلة، إذ تجثم على كاهله ديون سبعة أشهر، وتهديد صاحب المنزل بإخلاء المنزل، وإغلاق البقالة دفتر الدين أمامهم. يسمع أنات الوجع والجوع في آن واحدٍ، ينام على أمل صرف مخصصات الشؤون الاجتماعية ليستيقظ على جوع أطفاله الذين لا يعرفون كثيرًا عن سبب عدم الصرف.

تقول زوجته: "ما بنقدر نطلع لأنه راح نرتمي بالشارع، فش حد بأجر اللي بياخدوا شؤون".

تطأ عتبة البوح فمها عن معاناة زوجها المريض، إذ يعاني إعاقة حركية، و"روماتيزم" في المفاصل ويحتاج إلى مسكنات ومهدئات لا يستطيع شراءها، "وعنده عمليات طارئة في أربعة مفاصل في مصر لا يملك إيجار الطريق للذهاب إلى مصر والمبيت هناك، الله أعلم بحالنا كيف بنقضي أيامنا، زوجي بتحامل على نفسه ووجعه".

تتابع بحرقة قلب: "ربما لو سافر وأجرى العملية سيساعد نفسه على الأقل على التحرك قليلًا، الآن لا يستطيع التحرك دون الكرسي المتحرك، وفي البيت أقوم بإسناده حتى عند ذهابه لدورة المياه لعدم قدرته الوقوف على قدميه بسبب ألم المفاصل".

كان شيك الشؤون البالغة قيمته لعائلة اليازجي ألف شيقل يمثل "حياة" يدفعون منها الإيجار والبقالة وما يزيد يتسوقون به، وما يحدث تعده "قطعًا لهذا الشريان عن العائلة".

تضيف الأم لثلاثة أبناء: "أنا وأولادي الله أعلم كيف عايشين، من هان وهان، شوي بنام من غير أكل أو غدا (...) أحيانًا يصل إليهم بعض الزاد من بيت أهل زوجها يحاولون إسكات صوت الجوع في بطون أطفالهم، يمضون أيامًا أحلاها مُر، وأفضلها لا يعدو أكثر من زعتر وجبنة "فيتا" وفاصوليا وطماطم".

ترسل أبناءها للبقالة يأكل الخجل وجوههم، وتحت رحمة عطف الناس تسوء أحوال العائلة أكثر فأكثر، فمنذ شهر مارس الماضي لم تدفع العائلة الدين المتراكم للبقالة.

ضيف دائم

على حين تعاني أسماء أبو حمد (34 عامًا) إعاقة حركية وانحرافًا في العمود الفقري أجرت عملية تقويم له، إضافة لضمور بالعضلات، ولا تستطيع التحرك أو الحياة اليومية دون مسكنات ومستلزمات طبية يجب عليها الانتظام في تناولها.

بمرارة تلخص أسماء واقعًا صعبًا لصحيفة "فلسطين"، وفي كل جزئية مما تذكره قصة معاناة طويلة: "الذي لديه إعاقة يحتاج إلى الكثير من المستلزمات، شخص مثلي أجرى عملية تقوية لعموده الفقري ينام على فرشة عادية، على الرغم من أنني أحتاج إلى فرشة طبية كي لا أصاب بتقرحات وآلام في الظهر، البيت مسقوف من الإسبست، تخيل معاناة مريضة تضع جهاز بلاتين في البرد، الشارع رملي لا أستطيع السير به، ويجب أن تأتي السيارة لباب البيت، ولعدم توفر المال أعيش معزولة لا أستطيع الخروج من المنزل".

تصمت أسماء على أوجاعها مرغمة، فليس باليد حيلة أمام واقع معيشي مرير، فوالدها متوفى وتتولى والدتها المسنة التي لا تعمل مسؤولية رعاية الأبناء، لم تجد اليوم سوى الطماطم لتكون وجبة الغداء، هذه الحبات الحمراء أصبحت ضيفًا دائمًا على مائدة الأسرة الفقيرة التي تسكن بمدينة غزة.

تنوب عنها والدتها في شرح معاناة العائلة، وبعفوية تبوح بقهر: "الوضع صعب جدًّا بندبر حاجاتنا بالعافية، لا يوجد شيء لدينا، نأكل من عقاب السوق (ما يفيض لدى باعة الخضار)، تصور بيت بلا دخل كيف بكون؟ اللي زيِّي ست كبيرة بروح على السوق أدور بكل البسطات على أرخص حاجة، في المطر بنغرق".

يعلو صوت نبرتها الغاضبة: "الشؤون هي ضمان اجتماعي للفقراء اللاجئين إلا في فلسطين تقوم الحكومة بمنعه، كرامتنا وعزة نفسنا وين؟ عندما تذهب ست مسنة إلى السوق تحضر أتلف أنواع الطعام لأنه رخيص، وتشتري الملابس من البالة، هل هذه حياة يمكن يجربها أحد المسؤولين؟ ابنتي مريضة بضمور العضلات وتحتاج إلى تغذية جيدة وسيارة تنقلها من المنزل بسبب وعورة طريق حينا الرملي فتضطر للجلوس في البيت فترات طويلة وكأنها سجينة لجدران المنزل، فعن أي معاناة أحدثك".

تكالب الهموم

بملامح شاحبة بينما ترقد على شفتيها ابتسامة ممزوجة بمرارة الواقع، تقف الحاجة أم محمد أبو سلطان في طابور طويل داخل بنك الإنتاج بمدينة غزة، جاءت لتسلم مساعدة أبنائها الأيتام كغيرها من مئات الأسر التي امتلأت صالة البنك بهم.

لكن المساعدة البالغة 300 شيقل سيذهب جزء منها لسداد دين نظارة طفلتها الطبية. لا تحمل هذه الحاجة سنوات عمرها الستين فقط، بل هموم أولادها، فلديها ابن يعاني مشكلة طبية في عضلة القلب زوَّجتهُ قبل شهر من خلال إحدى جمعيات تيسير الزواج، ولا تستطيع سداد الدفعات الشهرية لمبلغ إجمالي قيمته 8 آلاف شيقل في ظل عدم صرف شيك الشؤون الاجتماعية.

الحاجة "أم محمد" تعاني أمراضًا مزمنة، وبالكاد استطاعت مقاومة وخزات ألم مفاصلها وظهرها، لم ينفع معها إسناد جسدها بوضع يدها على خاصرتها، لكنها مضطرةٌ للوقوف ولا تخفي صعوبة ما تعيشه: "والله يا ابني لو انه الوضع أفضل مش قادرة أقف هالوقفة الطويلة".

تقول أكثر عن معاناتها بينما اقترب دورها من الوصول لموظف الحسابات في البنك، فاردةً ذراعيها وهي تكشف الستار عن المعاناة التي تخبئها جدران منزلها: "نحن نعتمد على الخبز المنزلي، لكني الآن لا أستطيع شراء كيس طحين ولدي ثلاث عائلات وأطفال، لا أستطيع سداد الدين للبقالة، ولا لأقساط مؤسسة تيسير الزواج لابني المريض بالقلب، وبات مهددًا بالسجن إذا لم نسدد المبلغ، حتى إنني لا أستطيع إعطاءه 50 شيقلًا للكشف عن عضلة القلب".

مبررات واهية

بحسب المتحدث باسم الهيئة العليا للمطالبة بحقوق فقراء ومنتفعي الشؤون الاجتماعية صبحي المغربي، فإن هناك 53 ألف مستفيد من مخصصات الشؤون من ذوي الإعاقة، و28 ألفًا من كبار السن والمرضى، و10 آلاف أرملة، و725 منفصلة وكلهم تحت خط الفقر.

يقول المغربي لصحيفة "فلسطين": إن هناك معاناة مغلوطة تنتشر حول معاناة الشؤون الاجتماعية، مشيرًا إلى أن المعاناة بدأت منذ عام 2017م حينما صرفت وزارة الشؤون الاجتماعية برام الله ثلاث دفعات وامتنعت عن صرف الدفعة الرابعة، وفي أعوام 2018، 2019، 2020 صرفت دفعتين في كل عام أي أن هناك سبع دفعات "اقتصت وسلبت ونهبت من مستفيدي الشؤون".

وكان من المقرر صرف الدفعة المالية الأولى لعام 2021 نهاية شهر مارس الماضي لعدد 116 ألف أسرة مستفيدة من مخصصات الشؤون، على أن تُصرف الدفعة الثانية مطلع يونيو الماضي، ولكن الوزارة لم تصرفهما تحت مبررات كثيرة منها "عدم توفر الأموال لعدم إيفاء الاتحاد الأوروبي بوعوده"، ذريعة يعدها المغربي غير منطقية في وقت تصرف رواتب موظفي الوزارة كافة وكبار المسؤولين والموظفين، وكأنَّ "أسر الشؤون هم متسولون"، مؤكدًا أن المخصصات استحقاق وطني مكفول بالمنظمات الدولية.