العداوات والصدقات علاقات تحكمها المصالح بين الدول، فلا أخلاق في العمل السياسي، ولا قوانين تُلزم حينما تصاغ بشكل يمكن القوى من التحكم في مفاتيح لعبة الحكم والسياسة.
ولا قضاء ينصف إذا ما كُبل بقيد يُغل يد العدالة عن الوصول للجناة بسقف مجلس الأمن الدولي، الذي يحكمه الفيتو الذي لا يستخدم إلا لمنع العدالة والإنصاف بحق الضعفاء.
في المحاضرة الأولى في السنة الأولى لي في كلية الحقوق في مادة القانون الدولي العام فاجأنا الدكتور الذي يدرس المادة بحقيقة صادمة: "العالم تحكمه المصالح ولا يحكمه القانون"؛ ففيمَ دراسة القانون الدولي إذن؟! سؤال استنكاري وجواب تقليدي من المحاضر: حتى نعرف حقوقنا ونتمسك بها، وسؤال آخر: وما فائدة معرفتها والتمسك بها إذا كان العالم يحكم بالمصالح وليس بالقانون؟! الجواب: لأن موازين القوى تتغير ولا ثبات فيها، وبقيت جدلية القانون والمصالح قائمة في عقلي حتى الآن، رغم أنني على قناعة تامة بأن العدالة غير مطلقة وتبقى نسبية بين البشر، فما أراه عين العدل يراه غيري ظلمًا وجورًا، وما يراه غيري ظلمًا وجورًا قد أراه عدلًا وإنصافًا، ولذلك يظل القانون الحاكم والضابط، وهو المعيار الذي يحكم على تصرفات أشخاص القانون الدولي، فنصفها عادلة أو ظالمة بناء على تقييمنا مدى التزامها بنصوص القانون الدولي، بغض النظر عن احترامها له أو عدم احترامها، ومما سبق نفهم معادلة العلاقة بين أطراف ثلاث: العدو الصهيوني وبريطانيا وحماس، بالمنطق الخاص بكل جهة لا شك أن الحق كل الحق والعدل كل العدل يدعيهما كل طرف في تصرفاته وعلاقاته، التي يحكمها قبل كل شيء الإرث التاريخي والديني والحضاري، هذه القواعد التي تبنى عليها مصالح الدول وعلاقتها، ومن أجل ذلك أسست بريطانيا الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وللغرض ذاته دعم الغرب هذا الكيان ورعاه ومده بكل أسباب القوة والبقاء، ولم تفلح المآسي والآلام التي ذاقها الشعب الفلسطيني طوال تاريخه الحديث في وقف هذه الجريمة المستمرة منذ بلفور حتى قرار بريتي، وبالسياق ذاته يفهم موقف جانتس بمطالبة دول العالم بدعم السلطة الفلسطينية "حتى لا تنهار"، وفي الإطار نفسه يفهم موقف حماس العنيد بكل إصرارها أن تسبح وحيدة ضد تيار جارف من القوة الغاشمة والمصالح السياسية والاقتصادية.
وفي غمرة هذا المعترك المعقد المتشابك وهذا الصراع المحموم يكون للقانون الدولي مكان يمكن أن يتبوأه، ليحاول بكثير من المنطق وقليل من القوة إقناع أطراف الصراع بالتوقف عند نصوصه، ولكن تبقى في النهاية مقولة: "القوة تصنع الحق وتحميه" حقيقة واقعة، ولذلك يحاول كل طرف أن يتمسك بمقاليد القوة حتى في غمرة لجوئه إلى القانون الذي صيغ ليمنح القوى حق إنفاذه أو وقفه، الأمر الذي يعطي القوة كثيرًا من الاحترام حتى لو كانت متواضعة، فهي تستطيع في ظرف معين أن تلزم الآخرين بالامتثال لقواعد القانون وإنفاذها.
بريتي هي وزيرة بريطانية من أصل هندي هندوسية الديانة، بتتبع مسيرتها السياسية يتضح أنها وزيرة بلا قيم أو أخلاق، فقد عملت قبل ذلك في شركة تدعم النظام العسكري الدكتاتوري لميانمار، ثم تجاوزت الأصول الحكومية البريطانية وقبلت الحصول على مرتب شهري قدره خمسة آلاف يورو مقابل خمس ساعات عمل فقط في الشهر، وقد طردت من الحكومة البريطانية قبل ذلك أيضًا لإجرائها مقابلات مع شخصيات حكومية صهيونية دون إذن من حكومتها، بريتي تشعر بالقوة الآن في مقابل حماس التي تراها "طرفًا ضعيفًا"، لذلك تتجاوز القانون الدولي الذي ارتضته الأمم المتحضرة ضابطًا لتصرفاتها وتقرر أن تصم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب خلافًا لهذا القانون، وجانتس يشعر بالقوة مقابل السلطة الفلسطينية، وهي في نظره طرف ضعيف منهك يتخذه في الظاهر عدوًّا، ولكنه في الواقع يحقق مصلحة آنية ووجوده ضامن للاستقرار والهدوء، لذلك يطالب جانتس العالم بدعمه.
والمصلحة القائمة بين بريطانيا دولة منشئة للكيان الصهيوني وهذا الكيان لن يؤثر فيها إلا بعض من القوة تلزمها باحترام القانون الدولي، وهذه القوة ليست بالضرورة عسكرية، ولكن ربما تكون القوة السياسة والدبلوماسية والاقتصادية أمضى سلاحًا وأقوى أثرًا.
هذا إذا ما قرر من يمتلك هذه القوة من العرب أن يستخدمها، ولا أظنه يفعل، ولذلك تتصرف الحكومة البريطانية دون حساب في الاعتداء على الحق الفلسطيني، وبالمنطق ذاته يدعو جانتس أن يُفَعّل العرب قوتهم الاقتصادية والسياسية لدعم السلطة لأنها تحقق المصلحة المشتركة لبريطانيا والكيان، وأظنهم سيفعلون لأن التجربة أخبرتنا أن العرب ينفذون ما لا يرغبون.
بعد كتابة المقال ورد خبر على شاشة الجزيرة أن محكمة العدل الأوروبية تقضي بأن هناك مسوغات قانونية لوجود حماس على قائمة المنظمات الإرهابية، أظن أن تزامن الأحداث له دلالات معينة، وربما نتحدث عن هذا الخبر في مقال آخر.