عملية إطلاق نار في القدس القديمة خبر انتشر كالنار في الهشيم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لتلتفت الأنظار تجاه المدينة المقدسة التي تُمثّل لب الصراع في المنطقة العربية، لتتوالى الأنباء عن عملية جريئة أقدم على تنفيذها مقدسي معروف لدى أجهزة أمن الاحتلال، التي عاشت ساعات من الذهول وهي تتابع نتائج العملية، التي أدت إلى استشهاد المقاوِم المقدسي فادي أبو شخيدم ومقتل أحد جنود الاحتلال، وإصابة أربعة جنود آخرين، أحدهم أصيب بجراح خطرة.
تنبع خطورة هذه العملية الفدائية من دلالات توقيتها، ومكان تنفيذها، وطبيعة السلاح المستخدم، وشخصية المقاوِم الفلسطيني، ونجاحه الكبير في عملية التمويه والتخطيط لتنفيذ العملية، إضافة إلى نتائجها السياسية والأمنية على القضية الفلسطينية ومخططات الاحتلال لتهويد مدينة القدس والمسجد الأقصى.
جاءت عملية القدس الأخيرة في وقت كثّفت فيه حكومة الاحتلال اليمينية المتطرفة من انتهاكاتها ومخططاتها الاستيطانية التي تستهدف الأحياء العربية بالقدس المحتلة، وفي مقدمتها مخطط القطار الهوائي "التلفريك" الذي تهدف من ورائه إلى استبدال مسار يصبح فيه مُجمّع "كيدم" الاستيطاني مركزًا سياحيًّا وتجاريًّا لأهداف تهويدية بالمسار السياحي في البلدة القديمة، والمضاعفة غير المسبوقة لاقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، والقيام بطقوس يهودية داخل ساحات الأقصى مثل توثيق عقود الزواج وأداء الصلوات التلمودية، وغيرها من الانتهاكات لحرمة المسجد الأقصى، إذ بلغ عدد الصهاينة المقتحمين للمسجد الأقصى منذ مطلع عام 2021م 25581 مستوطنًا حسب إحصاءات نشرتها إدارة حائط البراق الصهيونية، وأخيرًا أصدرت لجنة التعليم في "كنيست" الاحتلال قرارًا إلزاميًّا بإدراج المسجد الأقصى معلمًا يهوديًّا ضمن زيارات المدارس الصهيونية عادّة إياه "جبل الهيكل".
ووفق توقيت المقاومة الفلسطينية تأتي عملية الشهيد المقدسي أبو شخيدم ضمن سلسلة عمليات فردية نفذها مقاومون فلسطينيون باستخدام ما أتيح لهم من أدوات دفاع بدائية، ردًّا على انتهاكات الاحتلال المتصاعدة ضد الشعب الفلسطيني، وهي تأتي بعد مرور خمس سنوات على عملية مشابهة نفذها المقاوِم المقدسي مصباح أبو صبيح في حي الشيخ جرّاح بمدينة القدس، وقُتِل فيها اثنان من المستوطنين الصهاينة، لتُبدّد من جديد أوهام جيش الاحتلال بأنه نجح في بسط سيطرته الأمنية على المدينة المقدسة، وإنهاء ظاهرة العمليات الفلسطينية المُسلّحة في عمق المدينة المقدسة التي طالما وصفها بعاصمته الأبدية، رافضًا وجود أي مظاهر سيادة فلسطينية داخل مدينة القدس المحتلة.
وعلى الصعيد السياسي تأتي عملية القدس مع دعم سياسي كبير قدمته حكومة جونسون البريطانية لحكومة بينت بإدراج حركة حماس على قوائم الإرهاب، وتكثيف أنظمة التطبيع العربي -وفي مقدمتها النظام الإماراتي- من هرولتها تجاه الاحتماء بالاحتلال الصهيوني، إذ وقع النظام الإماراتي أكثر من 80 اتفاقية شراكة إستراتيجية مع الاحتلال، وفتح له آفاقًا واسعة للتمدد السياسي والأمني في المنطقة العربية، ما يعينه على تعزيز ترسانته التقنية والعسكرية، فإذا عملية الشهيد أبو شخيدم في القدس تكشف وهن المحتلين، وتحدد نقاط ضعفهم، وتؤكد أن هذا الكيان الهشّ من الداخل لا أمان ولا مستقبل له في مدينة القدس التي تمثّل حاضر ومستقبل المنطقة العربية.
إن شخصية المقاوِم الفلسطيني فادي أبو شخيدم، أحد قادة حماس ووجهاء مدينة القدس المحتلة، بما تحمله هذه الشخصية من رمزية الشيخ المربي، والخطيب الواعظ، والعالم العابد الزاهد، ستترك أثرها المستقبلي في نفوس الشباب الفلسطينيين، الذين يرون هذا القائد قد ضحى بنفسه فداءً للقدس، ليُسطّر بدمائه الزكية مرحلة جديدة يخوضها الشباب الفلسطينيون في الضفة والقدس رفضًا لعدوان الاحتلال، ودفاعًا عن المسجد الأقصى.
إن النجاح الكبير لمنفذ عملية القدس في التخطيط، والتمويه بالتنكر بزي اليهود المتشددين الحريديم، ووصوله إلى باب السلسلة أحد أبواب المسجد الأقصى، وإيقاعه قتلى وجرحى في صفوف جيش الاحتلال، بما تمثّله هذه العملية من إيلام للمحتل الغاصب؛ ستدفع المزيد من الشباب الفلسطينيين لاتباع نهج المقاومة في مواجهة الاحتلال، خاصة مع الفشل السياسي الكبير الذي حققته السلطة الفلسطينية في مشروع التسوية، وبرهن لكل أبناء الشعب الفلسطيني أن خيار المقاومة هو الخيار الأكثر نجاعةً في مواجهة عدوان الاحتلال.
ختامًا رغم توقّعنا اتخاذ الاحتلال بعد هذه العملية المزيد من الإجراءات القمعية ضد الشعب الفلسطيني في الضفة والقدس المحتلتين؛ يقيننا أن المرحلة المقبلة هذه مرحلة المقاومة، وأن تصعيد الاحتلال عدوانه على أبناء الشعب الفلسطيني، والدعم السياسي الذي يتلقاه من دول الغرب، وتطبيعه مع أنظمة العار التي تفتقد أي حاضنة شعبية، لم تجلب ولن تجلب له الأمن والأمان فوق الأرض الفلسطينية المحتلة، وإن غدًا لناظره لقريب.