فلسطين أون لاين

عملية القدس.. الفيصل بين الحقيقة والزيف

أيامنا هذه حافلة ببركة الذكريات الجهادية العطرة، إذ تضمّ دفاترها ذكرى استشهاد عز الدين القسام، وعبد الله عزام، وعماد عقل، وذكرى ذروة عطاء هبة القدس أو (انتفاضة السكاكين) قبل ستّ سنوات، ونفحات معركة (حجارة السجيل) قبل تسع سنوات، غير أن رجال الله وخيرة من أنجبت فلسطين جددوا زخم تلك الذكريات، ونفحوا في أوصالها وتفاصيلها المعنى، حين أضافوا لها من رصيدهم فعلًا جديدًا بدأ بعملية الفتى الشهيد عمر أبو عصب في القدس قبل ثلاثة أيام، ثم بالعملية النوعية التي نفذها الشهيد المقدام فادي أبو شخيدم، يوم أمس قرب باب السلسلة في القدس.

وعلى الرغم من كون ذكريات البطولة لازمة في مسيرة أي شعب صاحب قضية بوزن فلسطين، وعلى الرغم من أهمية استحضارها على الدوام، لاستلهام معانيها وتأكيد دروسها، وتثبيتها في وعي الأجيال التي لم تعايشها، فإن إحياءها بالفعل، وإنارة آفاقها بوهج الدماء يبقى أعزّ وأجدى، في استخلاص كنه الإلهام، وبعث الهمم، وربطها بماضيها عبر وثاق متين، مرئي ومُصان ومتجدد.

أمّا معطيات الواقع الذي اكتنف هذه العملية، فهو مماثل لما ألفناه ونحياه منذ عقود، من ضغط وتعقيد واستنزاف للمقدرات والمعنويات، وأخطار تتهدد القضية من كل اتجاه، وحرب على مقدساتها وثوابتها، وحصار يفتك بحواضن المقاومة في كل الساحات، مضافًا إلى ذلك كلّه قرار بريطانيا حظر حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وتصنيفها منظّمة إرهابية، وهو القرار الذي استفز الأخيار على مستوى العالم فأنكروه، في حين ابتهج له أو سكت عنه داعمو المشروع الصهيوني وأذنابه، في كل مكان ومن كل لون، غير أن كل ما قيل أو كُتب حول القرار، مباركة أو إنكارًا سيبدو اليوم باهتًا أمام الإرادة المتعاظمة التي سطرها الشهيد النبيل فادي، بفعله وبدمه، في القدس، وقريبًا من المسجد الأقصى، حيث ظلّ من حراسه على مرّ سنوات عمره، بعلمه وعمله، وسعيه بين الناس تربية وإصلاحًا ودعوة إلى الفضائل، وحثًا على المكارم، وحضًّا على التزام ثغر الدفاع عن الأقصى والذود عن المقدسات، وعدم التقاعس عن الواجبات التي يقتضيها موقع المسلم الحق ودوره الطبيعي بين الناس وتجاه قضاياه؛ أي الدور الطليعي المتقدّم والمتحرك، صانع التغيير، ومخلّف الأثر.

وإنّ دَأْبَ عامة الناس التأثّر بالأبطال أضعافَ تأثرهم بالوعّاظ والدعاة والمصلحين، وحين يحوز امرؤ فضيلة هذه الجوانب كلها، فيجمعها في شخصه، كحال شهيد القدس فادي، فإن أثره يمتد وبركته تعمّ حتى تصنع فارقًا كبيرًا في الواقع، وما أمسَّ حاجة واقعنا اليوم إلى هؤلاء الكبار الذين يملكون أن يصلحوا تلك التشوّهات فيه، ويعيدوا لمفهوم (الصفوة) معناه ومغزاه، ويكونوا القدوة والأسوة في كلّ أحوالهم، والمنارة الهادية لكل من حاد عن الطريق.

لن نبالغ إن قلنا إن الشهيد فادي رحمه الله قد رسم في مدى بندقيته، الفيصلَ بين الحقيقة والزيف، حقيقة وزن الفعل مقابل الشعار، وقيمة الصدق وصائغيه مقابل الزيف وصانعيه، وإن معالم درب الصاعدين قد ازدادت نصوعًا وازدانت بالرياحين الجديدة، الجالبة عطرها إلى الآفاق المختنقة بالعجز، باعثةً فيها أملًا سخيًّا، يعيد بعث كلّ ما ذبل من معانٍ ومبادئ، واضعًا إياها في رحل الماضين في دروبهم، والأمناء على ثوابت قضيتهم، غير ملتفتين إلى مغريات المسارات البلهاء أو بريقها الزائف أو سرابها المجرّب.

هذا الفيصل بين الحقيقة ونقيضها، تعمّقه الخطوات الثقيلة فقط، في حجم فعلها ونوعه ودلالته، وفي أثره الذي يتعاظم حين يبين مداه، فيرهب (عدوّ الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم).

 

المصدر / فلسطين اون لاين