قائمة الموقع

​يلا تَنام يلا تنام لأدبحلِك طير الحمام

2017-06-20T09:32:25+03:00
الراحلة تهاني أبو شلوف تتوسط أطفالها

كانت ليلةً رائعة, ولهذا بقيت عالقةً في ذاكرتي, السماء شديدة الصفاء, ورائحة الفرح تفوح في المكان, اجتمعنا حولكِ كالفراشات, وأخذتِ تتخيلين صغيراتكِ أصبحن عرائس, بإطلالتهن البهية ليلة الزفاف كالبدر لمّا اكتمل, ووصيتكِ لنا ألا نبكي عند توديع العروس وهي خارجة من البيت, تقولين هذا ودمعةٌ تترقرق في عينيكِ, أما نحن فيعترينا صمتٌ كبير مع ابتسامةٍ وادعة؛ فلولا ما رسمته في مُخيلتنا لما بدا هذا النوع من الوداع بذينك اللطف والجمال.

كنّا صغيرات على هذا الحديث, لا أدري ما الذي ساقه إلى طرفِ لسانك في تلك الليلة, ربما فكرتِ بينك وبين نفسك أن حضوركِ لن يكون مؤكدًا حين يُصبحن صغيراتكِ عرائس فعلًا, فكان تخيل المشهد خيارك الوحيد لندخره في القلب إلى حين تضيق بنا الدنيا ونفتقد طعم البهجة.

كبرت "الصغيرة" أنوار يا أمي، وأصبحت تلك العروس التي حلمتِ برؤيتها، وها أنا أعدَّ الأيام لأرحل عن بيتنا الصغير الدافئ, ها أنا ســـأُزَّف إلى عروسي دونك، دون وصاياكِ الجميلة, دون دعائكِ بأن يحرسني الله بعينه التي لا تنام, دون انشغالك معي في توضيب حقيبتي، وفي تفاصيل يوم الفرح كما تفعل الأمهات, سيحاول الجميع أن يملأ الفراغ الذي خلّفه غيابك المرّ, لكن دون جدوى, فهلا حضرتِ لأجل هذا اليوم يا أمي.

لم أتخيل يومًا أن أحتاج لكِ ولا أجدكِ, أناديك ولا تسمعينني؛ أليس من المفترض أن أكون في أوجّ سعادتي؟!، لكن الأمر ليس كذلك, مشهد ابنتكِ العروس غير مكتمل, لا أفكر بشيءٍ سوى كيف ستطلّ فراشتكِ في قاعة الفرح على الحضور دون أن تُرِاعيها نظراتك لتهدأ رجفة الخوف, وتُطمئنها.

خَبر حملك بأميرتنا الصغيرة كان مفرحًا لنا جميعًا، انتظرنا مجيئها لنُصبح خمس فراشاتٍ, مع ثلاثة أقمار, كان مجيئها حتمًا سيُنهي ولاية أخي حبيب عن "آخر العنقود"، وبذلك تخِف حدة دلاله الزائد, وحُبه للتباهي بأنه يعتلي عرش فؤادك، انطوت شهور حملكِ سريعًا، وكلما اقترب موعد الميلاد زادت وصيتك لي: "ديري بالك يا أنوار على إخوتك"، لم أتردد لحظة في رعايتهم في حضورك أو غيابك, فحسّ المسئولية كان من تلك الصِفات الجميلة التي غرستها فينا.

في أثناء عملية الولادة أوائل رمضان الماضي حدث ما لم يُتوقع، أصبتِ بنزف حاد بعدما تمكَّنوا من إخراج صغيرتنا من رحمك الدافئ, ثم نقلتِ إلى غرفة العناية المكثفة, كلما سنحت لي الفرصة كنت أرافقكِ, أنظر بلهفة إلى الأجهزة الموصلة بكِ لتُبقيك على قيد الحياة بمشيئة الله ما استطاعت, ارتوت بدموعي الأرض من تحتي, أتوسل إلى الله أن يعيدكِ إلينا، ومع أن رائحة الموت كانت تزكم أنفي لم تكن الفكرة الأليمة حاضرة لدي, فأنتِ مازلتِ في ريعان شبابك, فكيف يخطفكِ الموتُ منّا؟!

رحلتِ بعد شهرٍ من المعاناة, ولم يحالف الحظ صغيرتنا لتُضمّيها إلى حضنك، ولو مرة, لم تسألينا سؤالك المعتاد عندما تضعين مولودًا: "قولتكم مين بيشبه؟"، ولم تشمّ هي رائحتك, ولم تنعم بحنانك, لم تغفُ مرة واحدة على أنغام صوتك: "يلا تنام يلا تنام, وأدبحلا طير الحمام, روح يا حمام لا تصدق, بضحك على حبيبتي تتنام".

ولن ترى ما رأيناه في عينيك من فرح وحب حين كنت تسمعين منا: " أنتِ الأمان، أنتِ الحنان، من تحت قدميك لنا الجنان، أمي أمي أمي نبض قلبي نبع الحنان"، مسكينةٌ أختنا الصغيرة لأنها ستحرم أعظم مخلوق اسمه "الأم".

لكن إياكِ أن تقلقي يا أطيب الأمهات؛ نحن نتعامل معها كما تعاملتِ معنا, نُحبها كما أحببتنا, ونُدللها كما فعلتِ مع "حبيب" الذي اكتمل عامه السابع وأنت لستِ إلى جانبه, سنحتفل بذكرى ميلادها الأول بعد أيامٍ ونُطفئ الشمعة، وستكونين أول الحضور؛ فالحيّ في القلوب لا يموت.

في رمضان الماضي قضينا الليالي الطوال ندعو الله أن يشفيك لتُنيري لنا البيت وتطلّي مع فجر العيد، لكن مشيئة الله لم تكن كما رغبنا، رمضان هذا هو الأول دونك، دون بركتك وحسّك، دون ألوان زينتك المُبهجة التي تُجمل بيتنا المتواضع، فلياليه لم تعد مؤنسة، أين نحن _يا أمي_ من سهرنا تحت شجرة الليمون بعد صلاة التراويح وسمر الحديث معكِ؟، يحوم طيفك حولنا عند السحور وعند الإفطار، دعواتك تحفنا، وصوتك لا يغادرني وهو يُوصيني بالانتباه إلى أكل عصافيرك الصائمين، أما هم فيشتهون سِرّ طبخاتك، لاسيما المقلوبة والملوخية.

يقول أبي دائمًا: "الدار بدون أم بتخرب"، وما أصدقه!، وكلما حركنا الشوق إليك دعونا: "ربِّ، إن أمنّا في ضيافتك فأكرمها بأعلى منازل الجنة ولا تحرمنا برّها".

اخبار ذات صلة