فلسطين أون لاين

مضربًا عن الطعام ويخشى مصير أخيه "محمد"

في زنازين "الجلمة" يربط لؤي الأشقر "حجر الحرية" على بطنه

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

الواحدة والنصف ليلًا، صوت مركبات عسكرية يملأ حيز المكان، تبعه صراخ الجنود فانفجار خلع الباب الحديدي لمنزل عائلة الأشقر في قرية صيدا شمال طولكرم، اقتحم الجنود المدججون بالسلاح البيت وقلبوه رأسًا على عقب قبل أن يعتقلوا لؤي (45 عامًا).

أمام أطفاله، يمسك عكازته، يمشي بخطوات متثاقلةٍ واحدة تجر أخرى، يقيده جنديان، حاول والده الاستعلام من الضابط الإسرائيلي: "ليش ماخدينه؟"، ليلتفت الأخير عليه يجيبه بلغة معتادة، مشهرًا بندقيته في وجهه: "ارجع لطخك".. ففرد الأب ذراعيه غير آبه بالتهديد: "طخني، ما أنتم متعودين على القتل".

إعلان التحدي

لم تمضِ أيام ثلاثة على أسر لؤي في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ليحكم الاحتلال بسجنه ستة أشهر إداريًّا، ليضاف إلى مئات الأسرى الذين يعتقلون على قضية لا يعلمون سوى أنها أمنية في عرف قانون الغاب الإسرائيلي.

أشهر سيف الإضراب عن الطعام من داخل زنزانته في سجن "الجلمة" ووصل إلى يومه السادس والثلاثين، يواجه بأمعاء خاوية سياسة الاعتقال بلا تهمة، خسر نحو 25 كغم من وزنه وأصبح وضعه الصحي "مقلقًا لعائلته"، لكون الأخبار الواردة من الزنزانة شحيحة.

بأمعائه الخاوية يخوض لؤي إضرابًا مفتوحًا عن الطعام في أوج معركته مع العطش، يرفض كأس الماء في سبيل بحثه عن الكرامة والحرية، لم يجد سوى جسده لخوض هذه الملحمة رابطًا حجر الحرية على بطنه متحملًا وطأة الأيام وثقلها.

"كعائلة ومنذ إضرابه لم نعرف تفاصيل كثيرة عن وضع لؤي الصحي سوى ما ينقله المحامي، أكثر ما يؤرقنا ويخيفنا أنه موجود بزنزانة ضيقة محروم من كل مقومات الحياة فيها، فقدان الوزن وألم في رأسه وقدميه"، تقول زوجته لصحيفة "فلسطين".

بالنسبة لزوجته، فإن التفاعل الفلسطيني الرسمي والشعبي مع الأسرى المضربين عن الطعام "لم يرتقِ لحجم التضحية التي يقدمها لؤي وخمسة أسرى آخرون"، معلقة بلهجة عامية غاضبة: "احنا خايفين لأنه اليهود (الاحتلال) بستنوا الواحد لما يموت تيحلوله مشكلته؛ وطالما فيه نفس بخلوه يتعذب لآخر لحظة".

يملك لؤي ورشة لصناعة مطابخ ونوافذ الألمنيوم، هي مصدر دخل العائلة الوحيد، وفي كل مرة يغيب فيها لؤي خلف قضبان الاحتلال، تغلق الورشة أبوابها فيما تمضي العائلة أيامها على ما يصرف لهم من راتب الأسير.

داخل الزنزانة تنشغل أفكاره في طفلته الرضيع "مسك" (ستة أشهر) وحال طفله كنان (5 سنوات) الذي لا يكف عن سؤال أمه وجده عن موعد عودة أبيه إلى البيت ليصحبه معه كل يوم للتنزه وفي مشاويره المختلفة، يجيبه الجد -وأمام تكرار سؤال الطفل- أن الموعد "بكرة"، وبين حقيقة معلومة وغد في علم الغيب، لا يعلم الجد إلى أن سيحملهم هذا الاعتقال.

مسلسل ملاحقة

عاد لؤي إلى السجن وهو يحمل ثقل ثماني سنوات قضاها في سجون الاحتلال متفرقة، بدأت أولاها حينما كانت سنه لا تتجاوز خمسة عشر عامًا، ومن بعدها بدأ مسلسل ملاحقة لم ينتهِ حتى اليوم، لكن الاعتقال الذي حدث عام 2005 غير مجرى حياة لؤي، كما تشير زوجه.

وتضيف: "حينما خرج من التحقيق العسكري، ذهبت إلى السجن برفقة عمي (والد زوجها) لزيارته الأولى، كان المشهد صادمًا، يجلس على كرسي متحرك، وجهه شاحب، وآثار التعذيب ظاهرة، فسألته عما حدث له، فزادت الإصابة صدمتي: أصبحت قدمي اليسرى مشلولة".

في حينه لم تستوعب الزوجة الكلمة، فقد دخل "لؤي" إلى السجن شابًّا بكامل قوته وحيويته، لتراه بوضع مرير، والده الذي ناب في الحديث عن كنته يستحضر تلك اللحظات: "روى لي قصة التعذيب خلال تلك الزيارة، قال لي: تعرضت لتعذيب لا يتحمله إنسان ولا يمكن أن يعذب شخص إنسانًا بهذا الشكل، فبعد جلسات كثيرة من التحقيق، أجلسوني على كرسي بلا ظهر ثم حنوا ظهري للخلف ليخرج من بين قدمي أسفل الكرسي تسمى "شبح الموزة" كأحد أشد أنواع التعذيب، ويربط الأسير بكرسي حديدي وتكبل يداه وقدماه ببعضهما من خلف ظهره، فيغدو على شكل موزة ويُضرب وهو في هذه الوضعية المؤلمة، "وبهذه الطريقة شُلت قدم لؤي".

خنقت الدموع صوت الأب وهو يستذكر بقية التفاصيل: "انتهت تلك العملية، ففك الضابط القيود وقال له بكل تعجرف وعنجهية: "قوم يلا"، فأخبره لؤي وهو يومئ برأسه من شدة الألم وبالكاد ينطق بأنه لا يستطيع تحريك قدميه، لكن الضابط سخر منه: "انشليت؟.. تمام هدا اللي بدنا إياه"، أي جريمة عن سبق إصرار وترصد، يقول الأب.

ويتابع: روى لؤي تلك الحادثة بينما كانت دموعي تتساقط، ولو شاهدت الموقف أمامي لفارقت الحياة، مشيرًا إلى أن العائلة حاولت آنذاك نقل لؤي من السجن إلى المشفى لكن الاحتلال رفض علاجه، وظل فترة طويلة يستخدم الكرسي المتحرك ثم عكازتين وها هو يمضي حياته على عكازة واحدة".

ظل لؤي يعيش على وقع تلك الجريمة، بعدما أصبحت قدمه مشلولة، لا يستطيع السير حتى بعكازة، إلا عندما يربط قدمه بجهاز التثبيت الخارجي، ولا يستطيع التحرك من دونه.

ولم تكن تلك الحادثة الوحيدة التي عصفت بالعائلة، فبعدها بعامين استشهد شقيقه محمد رميًا بالرصاص حينما اقتحمت قوات إسرائيلية خاصة السجن وأعدموه من مسافة قريبة.

"مِن هو طفل صغير ملاحقينه، بفلتوه سنة وبحبسوه ثلاثة"، وهكذا تتولى الملاحقة الإسرائيلية بحق الأسير لؤي، سنوات كثيرة حرمت العائلة من زيارته، يحاول الآن لؤي بجسده كسر سياسة الملاحقة كما يحاول غيره من أسرى الاعتقال الإداري إيقاف نوع من الأسر يجعل حياة الأسير مشتتة يعيشون بقلق دائم وخوف من تجدد الأسر.

رسالة مسربة

وفي رسالة سربت من سجنه، يقول لؤي إنه يقبع حاليًا في ظروف عزل سيئة داخل زنزانة مساحتها مترين في مترين تضم مرحاضًا بباب من الشبك مكشوف للسجانين، وهي باردة جدًّا، ولا يوجد كرسي للصلاة، وممنوع حتى من إدخال المصحف إلى العزل.

ويشير في رسالته المؤرخة بتاريخ 08 نوفمبر/ تشرين الثاني ونشرتها مؤسسة مهجة القدس أمس، أنه وفي أثناء إرجاعه من زيارة المحامي رافقه ضابط قسم 3 وعندما دخل إلى القسم نادت السجانة على المعتقلين الإسرائيليين ليدخلوا غرفهم ليتسنى لهم العبور إلى العزل، حينها سمع الضابط يزجرها ويقول لها اتركيهم ليطعنوه!

ويوضح لؤي أنه تقدم بشكوى شفهية إلى مدير السجن، وأخرى مكتوبة لوحدة التحقيق مع السجانين، "وحتى الآن لم يراجعني أحد".

ويخشى لؤي من ملاقاة مصير شقيقه محمد، إذ كتب في رسالته: "أخشى على نفسي من هذا التهديد لأنه سبق لهم أن هددوا أخي محمد ساطي الأشقر وقتلوه في سجن النقب قبل الإفراج عنه بشهر ونصف وكان ذلك بتاريخ 22/10/2007م".