لا شيء أصعب من أن يتحدث المرء عن مآثر راحل يمتلك من فرادة الصفات وكثرة الفضائل ما يجعل المتحدث حائراً عن أيها يتحدث، وبأي منها يمتدحه ويذكره، ولعلّ الراحل الكبير أبا أسامة (وصفي قبها) كان واحداً من هذه الندرة من الرجال، الذين كنت تراهم حيثما ولّيت وجهك، عابراً للأزمنة والأمكنة، متحللاً من تعب الأيام ومرّ التضحيات.
حين كان أبو أسامة ماضياً في دربه الطويل، لم يكن ينتظر على ناصية كلّ مرحلة لكي يحصد ثمرتها منصباً أو لقباً أو مكاناً دنيوياً عاليا، إنما كان يظلّ مداوماً سيره وعطاءه وبذله في كل اتجاه، فيما كانت مكانته ترتسم تلقائياً في مكان شاهق في الأفق، وفي قلوب الناس على امتداد فلسطين، الذين ظلّ في صفّهم، حاملاً قضاياهم، متابعاً إياها على تنوّعها، سواء أكبُرت لتكون محنةً شاقة، أم صغرت لتكون شأناً عادياً مما يمرّ على أحوال الناس من أفراح وأتراح شتى، فكان المرء يحسب أن تلك متابعة أبي أسامة له وحده، غير أن هذا كان حاله مع الآلاف من الناس، فكان هذا العمل المتفاني والدؤوب متوّجاً إياه في صدارة المشاهد والمراحل كلّها.
وإنه إن كان يسهل على معظم الناس أن تقدمّ جلّ ما تحوز من طاقة للعطاء قبل أن تعاين المحنة الأولى، وقبل دفع الثمن الأول، فإن أبا أسامة، ومعه نفر من إخوانه، كانوا ممن يصدق فيهم قوله تعالى: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم)، فالامتحان الأدق والأصعب لصاحب الرسالة في الحياة أن يظل مستجيباً لله ورسوله، ملبّياً نداء فكرته، وعاملاً بمقتضياتها، بعد أن تتابع الجراح عليه، فتغلب همّتهم نوازع الضعف أمام الثمن، وتسمو عزيمتهم على دأب الانحناء عند المصاب، والانسحاب بعد الغرم.
بمثل هذه الاختبارات الصعبة يتمايز الناس، فيمكث الأثبت في مكانه، وينزوي الأضعف إلى الظل، وبمثلها يكون بعض الرجال منارات تسمق في ظلمة السنين كلها، فيحقّ الاقتداء بها، وفيها يكون التأسّي لكل باحت عن موطن للتعافي، أو متّكأ للعزاء، أو جدار للاستناد، أو مَثَل للمواساة، به يعالج همّته، ويقوّم اعوجاج نفسه إن حادت عن طريقها، ولعلّ هذا من أعزّ متطلبات القيادة، ومن أنبل معانيها، أي أن يكون القائد أباً لجنده، ملهماً ومحفّزاً لهم، وإماماً لمن معه، يتقدّم الصفوف بإقدام، لا ينثني وإن ظلّ وحده، يصدح بالحقّ كلمةً ويسطّره موقفاً حتى وإن أطبق الوجوم على الآفاق، وسكن أو سكت أكثر الناس.
ليس بالأمر الهيّن أن يظلّ امرؤ في حالة عطاء دؤوب، ودوام على الفكرة، واتصال بروحها وحماس لها كأول عهده بها، وتحرّ للتضحيات، مع مكابدة لأثمانها، ومضيّ على الدرب مع تكالب الشدائد عليه، سواء تلك الحاصلة مع تقدّم العمر أو اشتداد المرض، وما يخلّفه في النفس من هزل أو خواء، أو تلك التي يصبها عليه أعداؤه عقاباً له وإضعافا، أو خصومه نكايةً وحقداً ومحاولات تحييد، وقد كان أبو أسامة ممن اجتازوا كلّ ذلك، فصبروا وثبتوا، وتقدموا وأجزلوا العطاء لفكرتهم وقضيتهم وشعبهم، ولزموا كلّ مسار شاقّ عزّ سالكوه، حتى حان أوان رحيله، فرحل تاركاً في كلّ مرحلة أثرا، وفي كل مكان نفحة من عبير، وفي كل مشهد راية.
ولعلّ هذا كلّه يحيلنا إلى ما يمكن للمرء أن يصنعه وإن كان فردا، أو عزّ الرفيق، إذا وضحت أمامه الرؤية وخلصت النية واستقامت الفكرة فعرف موقعه منها وموقعها منه، وفقِه معنى أن يستنفد وسعه وينهض بسعيه، دون تبرّم أو تثاقل أو تحايل على معاني الواجب.
رحم الله أبا أسامة، وأحسن عزاءنا جميعاً به، وعوّض فلسطين وشعبنا خيرا، وجعل رحيله باعثاً بأمثاله فينا.