خاطبني صديق برسالة، وكان مضمونها لافتًا بلغة باتت مطروقة –يا للأسف- من كثيرين، وهذا الصديق قيادي بارز في واحد من فصائل المقاومة، ينتقد فيها بمرارة ما آلت إليه أوضاع الشعب الفلسطيني وما يعانيه من أفعال عباس وفريقه المتآمر وأجهزته الأمنية المتعاونة حد التفاني مع عدو نازي لا يرحم.
هؤلاء العملاء الذين باتوا لا يجدون جديدًا يسمسرون به سوى دماء الأبناء الأعزاء لشعبنا الفلسطيني الصابر المحتسب .
ثم ينتقل الصديق فجأة دون مقدمات إلى دعوة هؤلاء الذين وصفهم بأعداء الشعب وجلاديه ليدعوهم إلى تحكيم العقل والعودة إلى جادة الحكمة، ويناشدهم ويذكرهم بأن هؤلاء الشهداء الذين سقطوا وساهموا في اغتيالهم هم من أهلهم وذويهم وبني وطنهم، ونعود لـ"بوس اللحى"، والعطوات العشائرية، وكأنك يا أبا زيد ما غزيت، وأن الجهاد ليس إيمانًا بالله وحرمانية العمالة التي ينهى عنها الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم)، ودفاعًا عن دينه والقيم السامية ومقدساتنا وأرضنا المطهرة في فلسطين، التي حمايتها من العدو وعملائه واجبة، نحميها بحدقات العيون كي تكون عزيزة مستقلة سيدة نورثها لأبنائنا مرفوعي الرؤوس بين الأمم .
وكان ردي عليه واضحًا، أن علينا ألا نذهب للمرة المليون لنناشد هؤلاء الذين ختم الله على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وضمائرهم، ونجرب المجرب بعد ثمانية وعشرين عامًا ونيف من التيه والغياب .
إن ما يفترض أن يكون واجب الجميع اليوم مقاومةً وجماهيرَ هو التحرك الجاد والهادف لعزل وحصار وإسقاط هذا التيار المتآمر وأجهزته الأمنية المجرمة، وكلنا يرى بأم العين ما يقترفونه من سقوط حتى الحضيض في بيع الأرض الوطنية، ومحاصرة المنتفضين في القدس المطهرة، وبيع عذابات الأسرى ودماء الشهداء والجرحى البواسل .
وإني أطالب صراحة الجميع بالتوقف عن الحديث عن أضغاث أحلام "المصالحة" وإنهاء "الانقسام"، وكأننا أمام برنامجين وطنيين لكلٍّ منهما اجتهاده الثوري لتحرير الوطن.
وقد جاء طريفًا وسمجًا رد عباس على سيده نفتالي بينيت حين أعلن أنه لن يلتقيه؛ فقد قدم كل شيء، ولم يعد لديه ما يستحق، وقد قال عباس غاضبًا: "إن هذا يعني أننا سنتخذ موقفًا"، ثم استدرك حتى لا يفهمه أحد على غير ما يريد: "أرجو ألا يذهب خيالكم بعيدًا، لأننا سنستمر في المطالبة بعودة المسيرة السياسية والتفاوض بعيدًا عن أي عنف".
وتابعت رسالتي في الرد على الصديق أن من أقدم على كارثة عار صك إذعان أوسلو لا يجتهد طريقًا واعدًا أو قاصرًا قد يفضي إلى حل سياسي لقضيتنا الوطنية، وإنما يعلم يقينًا أن له دورًا وظيفيًّا أعد بعناية ليتقاسم مع ربعه الجدد هذا المخطط، وأقول بجلاء: الخياني بالتمام والكمال، وقد مضى على ذلك 28 عامًا واحدها ينطح الآخر بوقائع تفقأ العين ولا تخفى على وطني ساذج فكيف بالحصيف؟! وقد بدؤوا في الاعتراف بكيانهم على 78.4% من الأرض الوطنية، وهذا يعني إقرارهم بسيادة المستوطنين على هذا الإقليم الجغرافي وقاطنيه الطامعين المستوطنين القادمين من أركان الأرض الأربعة وعلى مصادره الطبيعية، وهذا لعمرك يعني شطبًا لقضية اللاجئين التي أسست أصلًا من أجلها المنظمة، التي "كانت" لتحرير هذه الجغرافيا، وكانت أيضًا تكنى الفلسطينية لذاك السبب الذي تذروه الرياح ... ويقاتلون المقاومة ويعدونها إرهابًا، ويقدسون التعاون الأمني مع العدو النازي الكولونيالي، وبقية القصة لا شك عندكم.
ورغم كل التفاصيل لم نزل نتحدث عن ضرورات لقاء (الكل) الفلسطيني، أي كل؟! هل يلتقي العميل مع الثائر؟!
ألسنا أمام برنامجين متناقضين متصارعين متنابذين كالخطين المتوازيين لا يلتقيان إلا بإذن الله (تعالى)، لا شك؟!
ألا تعتقد أن تجريب المجرب هذا سيضرب عمليات الفرز والاستقطاب الجارية اليوم بتسارع في قلب وعقل شعبنا الفلسطيني المرابط الصامد المضحي في بيتا، وبيت دجن، ونعلين، والخليل، وجنين، وقلقيلية، وكل زاوية في فلسطين المحتلة من أقصاها إلى أقصاها؟!
حكومات بيك بوتا ودوكليرك للعنصريين في جنوب أفريقيا لم تسقط بجمع (الكل) بل حارب المؤتمر الوطني الأفريقي (A. N. C.) في الغابات وفي كل المنتديات الأفريقية والعالمية حكومة التمييز العنصري البيضاء، حتى عزلت وحوصرت وسقطت، لأن المسرح ما كان له أن يلملم (الكل) لأن ذاك كان مستحيلًا، كما لم تطالب (فيتكونج) -وهي جبهة التحرير الفيتنامية- بأن يراجع العميل فان ثيو رئيس سلطة فيتنام الجنوبية في حينه مواقفه ويعود إلى حضن شعبه (وإنو عيب عليك، وما بيصير!) بل قاتلوه حتى سقط، وهربت تلك العصابة حين اختطفتها آخر طائرات الهليكوبتر الأمريكية المندحرة والهاربة من على سطح السفارة الأمريكية في سايغون، وقد سقط الاحتلال الأمريكي في فيتنام مرة إلى الأبد، وتوحدت هانوي وسايغون، وقامت جمهورية فيتنام الحرة السيدة والمستقلة .
والنماذج ستعز على من سيحاول إحصاءها، وفي الجزائر أنموذج نعرفه جميعًا حين كان ثوار جبهة التحرير الجزائرية يعدمون كل خوان متآمر لتنظيف وتحصين القلعة الوطنية من الداخل وحتى تتطهر من طعنات الغدر، وما نعيشه في ضفة الصمود خير دليل على ذلك، ولنتذكر ما حل بفرسان نفق الحرية في سجن جلبوع.