منذ عام 1948 فُرضت على الشعب الفلسطيني ظروف اقتصادية غاية في الصعوبة، إذ انتقل الشعب الفلسطيني فجأة من حالة اقتصادية مستقرة على نحو معين إلى حالة "خواء اقتصادي" تام، إذ فقد الشعب الفلسطيني كل مقدراته الاقتصادية، وتحول من شعب منتج إلى شعب لاجئ لا يملك قوت يومه، وينتظر الكفاف الذي تقدمه له وكالة الغوث في خيام اللاجئين.
استمرت هذه الحال لمدة عشرين عاماً أعقبتها موجة لجوء أخرى عقب النكسة أدت إلى تدهور الحالة الاقتصادية بشكل أكبر، ولا شك أنه كان يقصد بالظروف الصعبة للغاية التي فرضت على الشعب الفلسطيني، دفعه للتنازل عن قضيته وترك الوطن، والبحث عن أماكن أخرى يجد فيها سبيلاً كريماً للعيش هرباً من الظروف الحاطة بالكرامة الإنسانية التي عايشها طوال فترة اللجوء التي لا تزال مستمرة.
بعد النكسة حاول العدو الصهيوني أن يغير إستراتيجيته في التعامل مع الشعب الفلسطيني بعد أن فشلت الإستراتيجية الأولى بتشبث الشعب الفلسطيني بأرضه بالرغم من وسائل القهر الإنساني المرعبة التي فرضت عليه، وتحولت إستراتيجية العدو من التضييق الاقتصادي إلى إيجاد نوع من الانفراج الاقتصادي، تمثل في فتح أبواب العمل داخل الكيان لعشرات الآلاف من العمال الفلسطينيين، عسى أن ينسيهم الوضع الاقتصادي المريح المطالبة بحقوقهم المشروعة، ولقد انفرج الوضع الاقتصادي فعلاً خلال فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ولكن كل ذلك لم يُنسِ الشعب الفلسطيني قضيته، فتفاجأ العدو بانتفاضة الحجارة عام 1987 لتبدأ مرة أخرى موجة من الضيق والملاحقة بحق شعبنا.
سياسات الاحتلال الفاشلة منذ عام 1948 يجترها العدو المرة تلو المرة بالرغم من علمه المسبق بفشلها، ولكنه لا يملك وسيلة سواها على ما يبدو، ولذلك فرض الحصار على غزة منذ حوالي 15 عاماً، ولم تفلح هذه الوسيلة على الرغم من قسوتها في إجبار الشعب الفلسطيني على التنازل عن مقاومته، فعاد مرة أخرى يطرح حلولاً اقتصادية ويطلب مقابلها هدنة طويلة عله بذلك يحقق ما عجز عن تحقيقه منذ بداية الاحتلال.
قيادة المقاومة تدرك جيداً أن الاحتلال فشل في إخضاع الشعب الفلسطيني وتدرك أيضاً أنه يحاول على الأقل "ترويض" المقاومة وإغراءها ببعض "المزايا الاقتصادية"، كحافز للقبول بطروحات الاحتلال، ولذلك جاء الرد على لسان عضو المكتب السياسي لحركة حماس الدكتور خليل الحية بأن أي هدنة طويلة مع الاحتلال غير مطروحة على طاولة النقاش، والهدنة الطويلة لا تتم إلا باتفاق سياسي شامل بعد نيل الشعب الفلسطيني بعضاً من حقوقه في الدولة وعودة اللاجئين، وكذلك الرفض المطلق لربط هذه "المزايا الاقتصادية" أو إعادة إعمار غزة بملفات أخرى.
ما سبق يوضح لنا أن الاحتلال نقيض التنمية والاقتصاد، ولا يمكن تصور حالة اقتصادية مستقرة أو جيدة لشعب مقاوم خاضع للاحتلال، وكل تجارب الشعوب التي خضعت للاحتلال تؤكد أن تلك الشعوب لم تكن تعيش في ترف من الحياة أو بحبوحة من العيش، ولكنها مرت بظروف تشابه الظروف التي عاشها شعبنا طوال سني الاحتلال، ولكن تبقى المشكلة فيمن يحاول أن يقنع شعبنا بقبول "المزايا الاقتصادية" مقابل الحقوق الوطنية، وهذا للأسف ما صرح به السيد اشتية -رئيس الوزراء- للموطن الفلسطيني" بدكم فلوس أكثر ولا وطن أكثر؟" وسواء كانت هذه الجملة مقصودة أو زلة لسان، فإنها تشي بما في عقل الرجل من مفاهيم يحاول أن يسقطها على الواقع الفلسطيني.
لا نحاول في هذا المقال إقناع الشعب الفلسطيني بأن يقنع بظروف العيش غير الإنسانية المفروضة عليه، ولكن نثبت حقائق يحاول البعض أن يطمسها، ليحمل المقاومة جرائم الاحتلال التي يعانيها شعبنا، ومنها مثلاً مقولة: "لولا حكم حماس لما عانى الشعب الفلسطيني الحصار"، وهذه المقولة هي الوجه الآخر لموقف الاحتلال "رفع الحصار مقابل سلاح المقاومة".
ولو أن كل الشعوب التي خضعت للاحتلال قبلت بما فُرض عليها أو ساومت على حقوقها، لبقي حكم الفصل العنصري قائماً حتى الآن في جنوب إفريقيا، ولبقي الاحتلال الفرنسي قائماً في الجزائر، بل ولبقيت حكومة فيشى الفرنسية التي شكَّلها الاحتلال النازي قائمة في فرنسا حتى يومنا هذا.
لا يمكن أن توضع قضية الشعب الفلسطيني المصيرية في تحرير أرضه مقابل الاقتصاد، وكل محاولة لربط الواقع الاقتصادي انتعاشا أو انتكاسا بالعمل المقاوم هي خطيئة يمارسها بعض الساسة، والأصل أن يتم الاتفاق على برنامج صمود وطني مدعوم وطنياً وإقليمياً، يمكن الشعب الفلسطيني من الثبات على مواقفه الوطنية وحقوقه المشروعة، وفي الوقت ذاته تحرير العمل المقاوم من قيود الحالة الاقتصادية، وهذه معادلة على الرغم من صعوبتها فإنها قابلة للتحقيق ولكنها تحتاج إلى توحيد الجهود الوطنية، والكف عن حالة التناحر العبثية التي عشناها طوال فترة الانقسام.