فلسطين أون لاين

هو الشهيد القسامي حمدي عرفات انصيو (مقداد)

تعرف على بطل أول عملية نوعية بحري نفذتها "القسام"

...
الشهيد حمدي عرفات انصيو (أرشيف)

هناك رجال لا يتركون التاريخ يصنعهم .. فهم الذين يصنعون التاريخ و بدمائهم يسطرون للدنيا أروع صفحات المجد و البطولة و الفداء والبذل في سبيل الله .... رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع و لا دنيا عن ذكر الله و إقامة شرعه و المضي قدماً في رفع راية الجهاد في سبيله .. رجال لا يخافون في الله لومة لائم , و لا يعطون في دين الله الدنية ..

فتهب نفحات الإيمان فيتنسم عبيرها الرجال ، ويصفو لقلوبهم هدف نيل رضا مولاهم ، فتسعى الأقدام تعشق الغبار في سبيل الله ، وتذهب عن الأجساد لذة الرقاد فلا ترتاح إلا بتوسد الإستبرق ، بل ويعلنون الحرب على الأهواء والشهوات رغبة بانطلاقها في جنة عرضها الأرض والسماوات ، الشهيد المجاهد " حمدي عرفات انصيو "رجل أعد الزاد ومضى راكبا في قافلة الدعاة المجاهدين ، وبدت حياته مسافرا مرتحلا حتى ترجل فارسا وارتقى في الخالدين فكان الابتداء طيبا والمسير مباركاً والختام معطراً ونعم السبيل المستقيم .

نشأته في الأسرة المجاهدة

هاجر أهله من حمامة عام 1948 ليولد في مخيمات اللاجئين، وبالتحديد في مخيم الشهداء والمجاهدين مخيم الشاطئ عام 1973 ، ولد في أحضان أسرة مجاهدة ، فأمه أم محمد إحدى خنساوات فلسطين، وهي أم لثمانية من البنين منهم ابنها الأكبر قضى 13 عاماً في سجون الاحتلال، وأحمد سافر إلى السودان بعد مطاردة قوات الاحتلال له ، وياسر الشهيد إثر إصابته برصاصة اخترقت جدار القلب ،وعماد الذي تعرض أيضاَ للاعتقال  على يد القوات الصهيونية.

 

حياة شهيدنا البطل

حمدي ، ابن الأسرة المجاهدة المؤمنة ، أنهى دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدارس المخيم ، وكان ـ مع اهتمامه بالدراسة والتحصيل العلمي ـ غيوراً على دينه حريصاً على نشر تعاليم الإسلام السمحة وأخلاقه الحسنة، فكان يعمل في صفوف الكتلة الإسلامية بجد واجتهاد، ويسعى بقوة لضم زملائه الطلاب لصفوفها.

أنهى شهيدنا الثانوية العامة ليلتحق بعدها بالجامعة الإسلامية لدراسة أمور دينه في كلية أصول الدين، وخلال دراسته زاد نشاطه في صفوف الكتلة الإسلامية ، ولكن لم يقدر الله  لحمدي أن ينهي دراسته، وذلك لانشغاله بتوفير مصروف بيته والأهل والقيام بأعباء الحياة، فقد تنقل من عمل إلى عمل، وكان في بعض الأحيان يعمل عملين في نفس اليوم على مدار الساعة، وكانت مهنته في آخر عهده بالدنيا هي خدمات الحرم في الجامعة الإسلامية .

تربى حمدي في المساجد، فكان المسجد الغربي بيته الثاني، حيث يقضي فيه أوقاتاً طويلة بين  العمل التعبدي كالصلاة وتلاوة القرآن والدعاء ، و العمل الدعوي والحركي حيث تربية الأشبال وإلقاء الدروس والمواعظ وإدارة الجلسات والندوات ، وإقامة الرحلات والمخيمات، وكان بحق شمعة تحترق من أجل الله ومن أجل تبليغ دعوة الله وإعداد الجيل المؤمن والشباب الملتزم، ومما يحفظ لشهيدنا المجاهد تعلقه بقول سيد قطب رحمه الله: "مداد الحياة أن تعيش لغيرك فعندما نعيش لذواتنا تبدو الحياة قصيرة تنتهي بانتهاء حياة الإنسان وعندما نعيش لغيرنا تمتد الحياة لأجيال وأجيال".

شباب المسجد كلهم يذكرون حمدي، يتذكرون تفانيه في العمل ، وإخلاصه فيه ، يتذكرون حبه للدعوة وتفانيه في العمل فيها ، فكم من الشباب هداهم الله على يديه ، وكم من الشباب أحبوا الدين والدعوة والعمل للإسلام بفعل كلماته، وهم الآن يحلون محله في تربية الأجيال.

مشواره الجهادي

أحب حمدي الجهاد ، وعشق الشهادة ، كره العدو المغتصب وقرر أن يعمل مجتهداً ليزيله عن أرضه ليحرر أرضه ومقدساته  ، لم يكترث لما يقوله المثبطون، ولا لما ينشره المنافقون ، كان يؤمن أن على  المسلم العمل والنتائج على الله سبحانه وتعالى.
كان في الانتفاضة الأولى  أسد المواجهات مع دوريات الاحتلال ، فقد كان له في كل يوم موعد لمعركةٍ غير متكافئة مع جنود الاحتلال المدججين بشتى أنواع السلاح ، كان سلاحه حجارة يلتقطها من أرضه المقدسة فتتحول بين يديه إلى جمرات ملتهبة، يقذف بها جنود الاحتلال لتحرق وجوههم وتلقي الرعب في قلوبهم.

كان يواكب كل جديد برفقة إخوانه الشباب المجاهدين ، بل كان دائما يحاول أن يطور من وسائله القتالية كي يذيق عدو الله بأس المؤمنين وشدتهم على أعدائهم المعتدين ، وإن كانت هذه الكلمات  لا تكفي لوصف عزم حمدي وإصراره، فقد ترك لنا الدليل حيث إن الجميع يشاهده عياناً ، فمن كان يسلّم على حمدي كان يشعر بيده اليمنى وقد بتر اثنان من أصابعها ، نعم فبينما كان حمدي قد أعد قنبلة وأراد أن يرمي بها جنود الاحتلال المتمركزين بالقرب من المسجد الأبيض إذا بها تنفجر مسببة له فقدان أصبعيه ،فما كان من حمدي إلا أنه فرح بأن سبقته أعضاء من جسمه إلى الجنة كي يصل الجنة أشلاءً مبعثرة ليجمع الله شتات أعضائه ويجمعه في جنانه ورضوانه.

حمدي والاعتقال

لأن مسيرة الجهاد لا تحفها الورود ، ولأن حياة المجاهد محفوفة بالمكاره، مزدحمة بالابتلاءات التي تتنوع بين السجن والنفي والقتل ، فقد كان لحمدي من كل ذلك نصيب، فقد تم اعتقاله على يد قوات الاحتلال الصهيوني عام 1991 لمدة شهرين على خلفية رشق الجنود بالحجارة .

وفي مطلع عام 2000 وبعد انقطاع طويل للعمليات الاستشهادية داخل فلسطين المحتلة بسبب تكالب قوى الظلم على الموحدين الذين امتلأت بهم السجون الفلسطينية والصهيونية، بل إن منهم لقي ربه تحت وطأة التعذيب في سجون الظلم الفلسطينية ،ومع كل هذا وعلى الرغم من المصير المرعب  الذي كان حمدي ينتظره ـ لو علمت السلطة بأمره ـ قرر حمدي أن يكيل للعدو ضربات قاسية ليعلمه أن المجاهدين لا يخمد صوتهم ، ولا تطفأ نارهم، ولا ينسى ثأرهم، وأن كل ما يفعل من أجل القضاء عليهم لا يخيفهم ولا يثنيهم عن مشوارهم.

 فعزم حمدي على أن يحيي جذوة الجهاد التي تكالبت عليها أجهزة السلطة واليهود ، فقاد خلية استشهادية إلى فلسطين المحتلة عام 48 ، لتخط قدماه هناك معالم العزة والكرامة وتشهد له بالجهاد والمقاومة، كان يهدف لتنفيذ ست عمليات استشهادية يهز بها الدولة العبرية، ويقلبها رأساً على عقب، لكن عيون الخونة رصدته ورصدت رفاقه فحوصر البيت، وقدم العدو بخيله وخيلائه ليطوي صفحة تلك الثلة المجاهدة الطاهرة فيرتقي عدد من إخوانه ومنهم ابن مخيم الشاطئ الشهيد نائل أبو عواد.

أما حمدي فكتب الله له النجاة ليقع أسيراً في يد سلطة الحكم الذاتي في مدينة نابلس، وينقل إلى سجون غزة ليقبع فيها،  ويذوق من صنوف عذابها ما يعجز عن وصفه الواصفون، وبينما هو في سجنه المظلم ـ في أواخر عام 2000ـ إذ  اشتعلت في الخارج انتفاضة الأقصى المباركة ليشتعل بها قلب حمدي الذي آلمه أن تحول بينه وبين ساحات الجهاد جدران السجن وقضبانه، ولكن النية الصادقة صهرت  قضبان الحديد.

ففي تاريخ 23/10/2000 وبينما طائرات العدو تحوم فوق غزة لتنذر بقصف مواقع السلطة، يخلي أفراد السلطة  المكان تاركين حمدي ورفاقه المجاهدين  في السجن دونما اكتراث لما يمكن أن يحدث لهم إذا ما قصف الموقع، لكن الأسد حمدي وإخوانه الميامين يكسرون الأبواب، ويمتطون جياد الشجاعة ليخرجوا من السجن   تحفهم رعاية الرحمن، ليظفر حمدي بما تمنى، ليلتحق بصفوف المجاهدين الكرام ، ولكن  أجهزة السلطة لم تتركه بل أخذت  تبحث عنه  لتعيده إلى المعتقل ، لكن هيهات أن يعود حمدي إلى قضبان الحديد وقد تمترس في ساحات الجهاد والمقاومة في  انتفاضة الأقصى المباركة.

إلحاح  على الشهادة والظفر بها

ويلح حمدي  من جديد على قادته وإخوانه لرغبته الشديدة في تنفيذ هجوم استشهادي، فيكرمه الله بما تمناه منذ زمن، وما كان يحلم به منذ صغره، فوافقت كتائب القسام وأعدته لتنفيذ هجوم استشهادي نوعي ولأول مرة في قطاع غزة ، زورق محمل بعشرات الكيلو جرامات من المواد المتفجرة يركبه حمدي متحليا بحلية الإيمان، لابساً لباس التقوى، آملاً في الشهادة في سبيل الله.

يتقدم حمدي ويخترق عباب البحر ليصل إلى العمق حيث بوارج الاحتلال وسلاح بحريته المجرم، يتقدم حمدي إليهم بثبات وإيمان لا مثيل لهما، وحيداً فريداً وسط ظلمة الليل وظلمة البحر، يتقدم بقاربه على أنوار الإيمان التي تنبعث من فؤاده ، ويقترب حمدي من أحد الزوارق الصهيونية ويمثل لمن فيه أنه صياد تائه ، حتى إذا وصل إليه فجر حمدي قاربه محولاً جسده وقاربه إلى نارٍ تحرق وجوه الظالمين ، فيرحل حمدي فرحاً مسروراً ، ويقتل من يقتل من سلاح البحرية الصهيوني محولاً إياهم  إلى فتات تتغذى عليها أسماك البحر.

التأخير في الإعلان عن العملية

وفور وقوع الهجوم أعلن العدو عن تعرض إحدى قطعه البحرية لهجوم لم يفلح العدو في التنبؤ عن سببه، حيث أعلن أن الانفجار كان بسبب قارب ملغم تم تفجيره عن بعد ، كأنه لم يتوقع أن المجاهدين يستطيعون ملاحقته بأجسادهم المفخخة في البر والبحر ، لكن كتائب القسام لم تعلن يومها عن العملية الجريئة ، بل تأخر الإعلان عن العملية ، ثم بعد أسابيع من وقوع العملية نشرت كتائب القسام بياناً بتاريخ 10/12/2000 تتبنى فيه العملية الاستشهادية  البحرية النوعية  التي نفذها المجاهد حمدي عرفات انصيو بتاريخ 07-11-2000، وورد في بيان كتائب الشهيد عز الدين القسام أننا نضرب العدو بقوة ونعلن في الوقت المناسب، معلنة أن التأخير في الإعلان عن العملية كان لأسباب أمنية.

وورد في بيان الكتائب أن حمدي فجر قاربا محملا بمائة وعشرين كيلو جراماً من مادة TNT  في زورق صهيوني من نوع دبور محولاً إياه إلى أشلاء وورد في البيان أن حمدي قد نال الشهادة التي طالما تمناها وسعى إليها.

 

عرس في مخيم الشاطئ

ولما طار الخبر إلى مخيم الشاطئ مسقط رأس شهيدنا المجاهد ، ضج المخيم على وقعه ، فبكت المآذن هذا الشاب المؤمن والمجاهد الفتى ، وبكت الحناجر الملتهبة ، الجميع يقول وداعاً أيها البطل لفقدك تدمع المقل ، أما القلوب المحبة فقد جهشت بالبكاء ـ ليس على شهادته فقد نال حمدي من ربه ما رجاه وتمناه منذ زمن ـ  ولكن على فراق هذا البطل المجاهد والأخ الحبيب الذي لازال الجميع يذكره ويرثيه .

أما أم الشهيد ، الأم المجاهدة أم محمد، فقد قالت بثبات وإيمان "سأنظر إلى البحر كلما اشتقت إليه، إني سامحته رحمه الله لقد تمنى الشهادة فنالها، ابني مثل كل الشهداء يرفع رأسي في السماء".

وقالت أيضاً: كانت آخر مرة رأيته حينما قصفت القوات الصهيونية للمرة الأولى غزة، حيث كان معتقلاً في السرايا وخرج بعد أن تم إخلاء السجن، وفي تلك الليلة مكث في المنزل ساعة واحدة وخرج وهو يقبلني قائلاً: "يا أمي لن أعود إلى السجن لقد صممت على الشهادة".

أما خطيب المسجد الغربي فقد ذكر في خطبة الجمعة مآثر هذا الشهيد التي لا تحصى، ومما ذكره أن حمدي جاءه منذ سنين وهو صغير السن يقترض منه مبلغاً من المال، ولما سأله الشيخ عن سبب طلبه أوضح أنه يريد شراء قارب يفجره في العدو لينال الشهادة وينتقم من الأعداء، وبعد سنين طويلة يحقق الله لحمدي ما صدق في طلبه ورجائه منه.

وفي المخيم صار للشهيد عرس عظيم أمّه الآلاف من المهنئين بشهادة هذا البطل المجاهد.

فوداعا يا حمدي أيها الاستشهادي المؤمن ، أيها المجاهد الصلب ، أيها الداعية المحب.

المصدر / فلسطين أون لاين