فلسطين أون لاين

تقرير ​يا عصفور "سلملي" على ريهام

...
ريهام دوابشة وعائلتها التي راحت ضحية لـــ"حرق المستوطنين"
غزة - يحيى اليعقوبي:

أفضل شخص في العالم يمكنه أن يخبر الجميع عني هي عمتك حفصة؛ فلا أحد يعرف شيئًا عن الوجه الآخر لــــ ريهام دوابشة أكثر منها؛ لا تحزن يا أحمد وهيا ارفع رأسك؛ ستُدّرس حكايتنا يومًا للأجيال.. حكايتي أنا وأبوك سعد وأخوك الرضيع "علي" حين أحرقنا المستوطنون قبل نحو عامين ونحن ننام في بيتنا آمنين.

من شدة قربكَ لي لم تكن تناديني إلا باسمي؛ ونادرًا ما قلت "ماما"؛ كانت "ريهام" تخرج منك كـالسكر؛ لم تتجاوز الرابعة من عمرك حين قدر الله أن نفترق عنك؛ وكم تمنيت أن أبقى لتطربني بحلاوة ندائك.

حين يغالبك الشوق قل لعمتك حفصة: "أخبريني عن ريهام" و لا بد وأنها ستفعل؛ حفصة لم تكن أخت زوجي فحسب بل هي صديقتي المقربة التي تفتقدني بحرقةٍ؛ تفتقد مشينا معًا في بلدة "دوما" الآمنة التي لم يحدث أبدًا أن اعتدى عليها أي مستوطن؛ نستعذب الحديث فيما يتشابك ساعدانا ونحن نتجه إلى شجرة التين التي نودعها حكايانا وأسرارنا، كان على "بلدية نابلس" أن تُسمِيها رسميًا "شجرة ريهام وحفصة"؛ ثم نكمل السهرة في البيت؛ ونصلي الفجر جماعة ونتلو القرآن في صحبةٍ صالحة.

أحبتني حفصة كثيرًا ربما لأنه كان لديّ شيءٌ من براءة الأطفال، أتذكرين حين كنا نتقاذف الثلج وتعلو صيحات ضحكنا: "مين قال إنه كبرِنا؟!"، نمشي تحت المطر لنعيش أجواء النقاء تحته، كنا أجمل مجنونتين يا حفصة حين نرسم بغصن الزيتون الخطوط على الرمل لنلعب "الحجلة".

آثار الحرق

آثار من الحرق بقيت على وجهك الجميل يا بني لتبقى شاهدةً على الجريمة الشنيعة، وحينما استيقظت من تخدير "البنج"، أخذت يا أحمد تُهلوس بالعبارات التي كان أبوك سعد يستغيث بها قبل ان نفارق الحياة؛ صارخًا: "ساعدونا ساعدونا..حرقونا حرقونا"، وحين استدعوا لك الأخصائية النفسية؛ أخذتَ بطفولتك البريئة تسرد القصة: "أجو مستوطنين فتحوا شباك البيت ورموا النار"، ثم أتبعت روايتك: "حملني سعد بسرعة وتخبيت تحت الكرسي وقلي : حمادة إياك أنك تطلع يا بـــَـا"، فأبوك أيضًا لم تكن تنادي عليه إلا باسمه؛ ثم سحبني المستوطنون و أنا أحمل أخاك علي على ذراعي؛ فيما انهالت "قطعانهم" بالركلات على سعد.

حين سألوك عما حدث بعدها كان جوابك: "ضربوا أبوي وضليتني أعيط؛ وبعدين أجو الناس طلعوني من الدار".

ستقول لك عمتك حفصة إنها لم تر حنانًا كحنان سعد وريهام على أولادهم؛ كانت أمك مرهفةَ الحس؛ بشوشة الوجه؛ تحمل طفلة في داخلها؛ تبكي إذا ما شاكتكَ شوكةٌ أنت أو أخوك، أما سعد فما أقرب دمعته حين يسمع عن الأحداث الدامية في غزة وسوريا والعراق.

سعد الذي تألم كثيرًا حين أحرق اليهود الفتى "محمد أبو خضير"، وقالها بغضب وحزن: "صحيح أنه شهيد الحرق يعادل شهيدين؛ لكن والله صعب الحرق.. سبحان الله استشهد وهو صغير وصارت قصته بكل الدنيا".

أتذكرين يا حفصة حين امتدحتِ أحمد بأن لديه طاقة عالية؛ فقال لكِ سعد: (بدي أربيه يكون قوي وتجري الحياة بدمه)؛ كنتَ تحب أباك كثيرًا إلى درجة أنك تمنيت أن تشبهه وأن تنبت لك لحيةً مثله حين تكبر؛ ولم استغرب حين طلبتَ أن ترتدي قميصًا أزرق كـــلون قميصه المفضل.

يمر رمضان الثاني على غيابنا وحزن الفراق لا ينقضي؛ ستخبركَ عمتك حفصة أن "شهر رمضان مع ريهام وسعد كان غير"؛ كنا نستمتع بإعدادنا الطعام وثرثرتنا النسائية أثناء التحضير، ثم ننتظر "الله أكبر" ونحن مجتمعون على مائدةٍ واحدة، ونترافق في الذهاب إلى صلاة التراويح؛ وبعد العودة نتسامر حتى الفجر بعد نوم هادئ لأطفالنا؛ أما الآن فلم يبقى إلا الذكريات.

كان آخر رمضان له تفاصيل حميمة أكثر، كنت معلمة محبوبة من طالباتي؛ وانتظرت بفارغ الصبر أن تحين العطلة الصيفية؛ حتى أتفرغ لبيتي بالشهر الكريم؛ كان أبوك في تلك الآونة يحرص على الذهاب إلى عمله باكرًا حتى لا يتأخر علينا فنقضي وقتنا كأسرة دافئة.

الناجي الوحيد

لا تبكِ يا حفصة؛ لا بد وأنك تذكرتِ آخر أيامٍ في آخر رمضان لنا، فذات يوم تأخرنا في السوق، كم كنت أشعر بفرحة الإنجاز أني اشتريت كل ما أريده للأولاد بالرغم من انزعاج سعد بانشغالي في هذا الأمر، كنت سعيدة بالملابس الجميلة التي ارتديتها معك يا أحمد أنت وأخوك في يوم العيد.

هكذا كان القدر يا بني؛ أن تكون الناجي الوحيد من فعلة المستوطنين، ابتسم حين تسأل ببراءة إذا ما ارتكبت خطًأ (سعد وريهام بزعلوا مني؟)، لا سيما إن حصلتَ على تقدير جيد جدًا بدلًا من "الممتاز" أو إذا لم تكتب واجبك، وفي حال فعلت شيئًا يستحق الثناء تتساءل ببراءةٍ أكبر: "سعد وريهام شايفيني؟".

وصلني سلامك مع العصفور يا أحمد؛ عصفورك الذي مات فمسحتَ على ريشه بحنان؛ وحفرتَ له حفرة وقمت بدفنه؛ ثم قلت: "نياله هالعصفور راح عند سعد وريهام"، وكالعصفور كان جدك الذي أحببته كثيرًا ثم مات هو أيضًا، سألتَ عنه: "وين راح سيدي"، فجاءه الجواب المعتاد "بالجنة"، ومرةً أخرى يقول أحمد: "نياله سيدي راح عند سعد وريهام"، و مجددًا تسأل: "متى سيحين دوري لأذهب عندهم؟!".

أتذكر يا أحمد حين كنتُ أعود من وظيفة المدرسة واتجه لبيت جدك حتى آخذكَ، فإذ بــــشقاوتك توصيهم : "اذا أجت ريهام احكولها أنا مش هان بديش اروح"؛ أفديها بروحي هذه البراءة "يا ناس".

تفاصيل لا تنسى

رحل جدك أيضًا وهو الذي كان يدللّك طوال الوقت، فلو طلبتَ منه الذهاب إلى "الدكان" في أجواء المطر لا يتردد في أن يمسك يدك الصغيرة ويحقق لك ما تحب، ويحلو لك أن تصعد على ظهره حين يخر ساجدًا ليدعو الله بأن يطيل في عمره فقط ليراك شابا من "زينة الرجال".

أعرف أنك لن تنسانا وأن تعلقك بوالديك يلازمك؛ حتى أنك لا تنسى أصغر التفاصيل بما فيها بيتنا الذي حُرق، لن يستطيع أحدٌ تعويض غيابنا؛ مع أني واثقة أن عائلتنا الجميلة تضعك في عيونها وتحلم باليوم الذي يشير إليكَ الناس فيقولوا: "وإنه على خُلقٍ عظيم".

ستكبر يا بني وستستلقي تحت شجرة التين في قريتنا الحبيبة دوما، وستقطف من ثمارها وتتلذذ بطعمها الحلو بدلًا مني؛ وستندمل جروحك ولكن لن ينسى أحدٌ حكاية "سعد وريهام دوابشة".