قبل 25 عامًا وجدت البروفيسورة أماني جمال نفسها في بحر السياسة بمحض إرادتها، على غير رغبة والديها اللذين طالما نظرا إليها طبيبة أو مهندسة، إذ كانت تحصد درجات كاملة في جميع المواد الدراسية في المرحلة الثانوية.
اليوم تعتلي جمال قمة الهرم الأكاديمي الأمريكي، عميدة لكلية الشؤون العامة والدولية في جامعة برنستون، وهي واحدة من أفضل الجامعات في العالم.
منصبها الجديد الذي تسلمته في الأول من أيلول (سبتمبر) الماضي بدأت معه البروفيسورة أماني مرحلة مهمة في حياتها المهنية، التي تلقي "فلسطين" الضوء عليها، وعلى جانب من حياتها الأسرية.
التكوين وتشكيل الوعي
ولدت أماني في أمريكا عام 1970، لأبوين فلسطينيين هاجرا من بلدة دير دبوان شرق رام الله إلى أمريكا في بداية الستينيات، وفي العاشرة من عمرها عادت إلى مدينتها، وبقيت هناك حتى أنهت المرحلتين المتوسطة والثانوية في مدرسة الأصدقاء برام الله.
خلال تلك المرحلة عاصرت "أماني" الانتفاضة الفلسطينية الأولى، تقول: "زاد وعيي بالحق الفلسطيني، وتعلمت أهمية الشأن العام والمسؤولية المجتمعية وأهمية الطموح بلا حدود".
وتتذكر أنه خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى قرر الاحتلال إغلاق جميع المدارس: "كنت في منتصف سنتي الدراسية الأخيرة بالمدرسة الثانوية، في الأسابيع الأولى جلسنا في منازلنا، وكان لدينا أصدقاء كثيرون، وقضينا أوقاتًا ممتعة، لكن أدركنا سريعًا أننا لن نتخرج في المدرسة الثانوية، وبدأ المدرسون تنظيم فصول في منازلهم، وكان عليك المرور عبر نقاط تفتيش للوصول إلى منازل المدرسين، إذا أوقفك الإسرائيليون فستقول إنك ذاهب للتسكع أو تناول الطعام، وهكذا تخرجت في المدرسة الثانوية، حتى تخرجنا في المدرسة الثانوية كان في صورة حفل تخرج أقيم في السر".
بعد الثانوية عادت أماني إلى أمريكا حيث حصلت على شهادة العلوم السياسية من جامعة كاليفورنيا.
تقول البروفيسورة أماني لـ"فلسطين": "عمل والداي بجد للتحقق من أن لدينا فرصًا لم يستمتعا بها وهما في بلدهما، أنا ممتنة جدًّا لكل ما فعلاه من أجلنا".
وتتابع: "كأغلب العائلات العربية رغب والداي أن أتجه لدراسة الطب أو الهندسة في بداية تعليمي الجامعي، وكان يعتريني الملل من هذه المواد، في الوقت ذاته انجذبت للعلوم السياسية، وحصلت على الدرجات النهائية في موادها، لكنني أدركت كذلك أنه لا يمكن التقدم والتميز فيها دون الاستمرار في الدراسات العليا وصولًا إلى درجة الدكتوراة".
وحتى وقت حصولها على منصبها الجديد في "برنستون"، لم تتوقف والدتها عن القول: "كان يجب أن تذهب "أماني" إلى كلية الطب".
الحياة في برنستون
في عام 2003 التحقت "أماني" بـ"برنستون"، وتدرجت في المناصب الأكاديمية بداية من أستاذ مساعد ثم أستاذ مشارك، إلى أن حصلت على درجة الأستاذية (بروفيسور) في عام 2013.
وطريق النجاح لم يكن ممهدًا بل شابه الكثير من المعيقات والصعوبات، واجهت "أماني" بعضًا منها، غير أن سوء فهم عامًّا للإسلام والمسلمين والعرب والفلسطينيين كان الأكثر تأثيرًا في شخصيتها، وتشير إلى أنها غالبًا ما شعرت باضطرار ملح إلى تصحيح وجهات نظر الناس الخطأ.
وتتابع: "قبل خمسة وعشرين عامًا ربما كنت أول مسلمة ترتدي الحجاب يواجهها الكثيرون في الأوساط الأكاديمية بالانتقاد، إذ اعتقد الناس أن لدي آراء سياسية راديكالية، أو لن أكون قادرة على تقدير التعاليم الليبرالية في الجامعة، كان ذلك سخيفًا".
وتضيف: "كان أصعب تلك المواقف حينما أخبرني أحد الأساتذة مرة أنه لن يعمل معي في رسالتي للدكتوراة، لأنه لا يريد العمل مع متطرف مسلم".
وتعلق على ذلك بالإشارة إلى سيكولوجية الغرب: "أعتقد أن هناك الكثير من الخوف والشك، وجزء من ذلك الخوف والشك مدفوع بأحداث واقعية، إلا أن الكثير منه مدفوع بالخوف من المجهول".
وعن السر الذي قاد البروفيسورة أماني للمنصب المرموق تتحدث: "العمل بجد في كل خطوة، إلى جانب ذلك عاملت دائمًا الجميع باحترام وكرامة، إذ يحترم ويقدر الناس هذه الصفات الأساسية".
وتعد جامعة برنستون من أرقي الجامعات الأمريكية منذ تأسيسها عام 1746، ولا يخلو أي تصنيف لأفضل الجامعات في العالم من وجودها ضم الخمس الأوائل، وجاء ترتيب الجامعة الأول في تصنيفات الجامعات الأمريكية عام 2020، وتفوقت على جامعات هارفارد، وستانفورد، وييل، وكولومبيا، وإم آي تي.
تخرج في الجامعة الكثير من أعضاء الكونغرس والوزراء والسفراء الأمريكيين، كما تخرج فيها رئيسان حكما الولايات المتحدة، وهما جيمس ماديسون وودرو ويلسون، إضافة إلى 71 من الحاصلين على جوائز نوبل في مختلف التخصصات، و12 من قضاة المحكمة العليا الأمريكية (3 منهم قضاة حاليون في المحكمة)، و8 وزراء خارجية، و3 وزراء دفاع، كما تخرجت في الجامعة سيدة أمريكا الأولى السابقة ميشيل أوباما.
وتضم كلية الشؤون العامة والدولية نخبة من الأستاذة، منهم عدد من كبار المسؤولين السابقين مثل السفير الأمريكي السابق إلى كل من مصر والكيان الإسرائيلي دانيال كروتزر، ورئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق سلام فياض.
إنتاج معرفي واسع
وللبروفيسورة أماني جمال إنتاج معرفي واسع في صورة كتب وأبحاث ومقالات تحليلية في كبريات الدوريات الأمريكية، وحصلت على العديد من الجوائز والزمالات.
ففي عام 2004 عيّنت عضوًا مدة 5 سنوات في مجلس العلاقات الخارجية، وهي أيضًا عضو في اللجنة الاستشارية للعلاقات بين الولايات المتحدة والمسلمين التابعة لمعهد الولايات المتحدة للسلام، وفي عام 2006 اختيرت أماني جمال للحصول على لقب "باحثة كارنيغي" المرموقة، ثم انتخبت عضوًا بالأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم في عام 2020.
وسبق للبروفيسورة أماني أن توجت بالعديد من الجوائز، ففي عام 2007 أصدرت كتاب "معوقات الديمقراطية" الذي يستكشف دور الجمعيات الأهلية في تعزيز الديمقراطية بالعالم العربي، وفازت عنه عام 2008 بجائزة أفضل كتاب في العلوم السياسية بالولايات المتحدة الأمريكية.
ومن كتبها الأخرى "إمبراطوريات ومواطنون"، وشاركت في تحرير "الأمريكيون العرب قبل وبعد 11 سبتمبر".
ونُشرت مقالات جمال في الدورية الأمريكية للعلوم السياسية، ودورية السياسة، ودورية الدراسات السياسية المقارنة، ودورية تسوية النزاعات، ودورية السياسة المقارنة، ودورية رؤى حول السياسة، ودورية الاستعراض الدولي للهجرة، وفي منصات أكاديمية أخرى.
ومقالها "هل يلعب الإسلام دورًا في المشاعر المعادية للمهاجرين: مقاربة تجريبية"، الذي نُشر في دورية "بحوث في العلوم الاجتماعية" عام 2015؛ فاز في 2016 بجائزة "لويس ويرث" لأفضل مقال، وهي جائزة تقدمها الجمعية الأمريكية السوسيولوجية- قسم الهجرة الدولية.
وكانت آخر الجوائز التي حصلت عليها جائزة الكويت في مجال العلوم الاقتصادية والاجتماعية، من مؤسسة الكويت للتقدّم العلمي لعام 2020م.
أم تتطلع إلى جيل المستقبل
وإلى جانب عملها الأكاديمي إن البروفيسورة أماني أم لأربع فتيات، وجدة لأربعة أحفاد، وطالما نظرت إلى بنياتها مصدر إلهام.
وتلفت إلى دور محيطها الأسري في نجاحها: "كانت والدتي دائمًا موجودة للمساعدة، كما ساعدتني حماتي وشجعتني أيضًا".
ووقت البروفيسورة أماني مليء بالأعمال والاهتمامات الأخرى، فهي تحب التطوع المجتمعي لرفع الآخرين دائمًا، فقد شغلت سابقًا منصب مديرة لمركز ممدوحة س. بوبست للسلم والعدل.
كما تدير ورشة عمل التنمية السياسية العربية ومبادرة بوبست-الجامعة الأمريكية في بيروت التعاونية، وهي أيضًا مؤسسة مشاركة ومحقِّقة رئيسة مشاركة في البارومتر العربي.
ومشروع البارومتر العربي يقيس الرأي العام في العالم العربي تجاه أهم القضايا المحلية والإقليمية والدولية المهمة، بإجراء استطلاعات ذات مستوى عالٍ من الجودة والمصداقية منذ عام 2006.
وحتى اليوم قابل أكثر من 75 ألف مستطلع عربي عبروا عن آرائهم في الحوكمة والشؤون السياسية، والظروف الاقتصادية، وقضايا حقوق المرأة والمساواة، ودور الدين في المجتمع، والقضايا الدولية والإقليمية وغيرها.
أما عن طموحاتها فترى في الجيل الجديد المستقبل، إذ تأمل أن تستمر في تثقيف قادة المستقبل، والتحقق من أن المساحات التعليمية ستظل شاملة.