مرت مئة وأربع سنوات على إصدار "وعد بلفور" الذي أعطت بموجبه الحكومة البريطانية عهدًا لشتات اليهود في العالم بمنحهم أرض فلسطين لإقامة وطن قومي لهم، متجاهلةً الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في أرضه التي ما زال يسكنها منذ آلاف السنين، وضاربةً عرض الحائط بميثاق عصبة الأمم، الذي منحها آنذاك حق الوصاية على الأرض الفلسطينية، وحمّلها أمانة تقديم المشورة ومساعدة الشعب الفلسطيني أمّة مستقلة إلى حين يصبح فيه قادرًا على النهوض وتحقيق الرفاهية.
إن نصوص "وعد بلفور" المشئوم، وصكّ الانتداب الأممي أكدت بوضوح عدم الإضرار بالحقوق المدنية والدينية التي يتمتع بها غير اليهود؛ لكن بريطانيا بالنظر إلى سياساتها اللاحقة خلال حقبة انتدابها في القرن الماضي تكون قد نكصت فعليًّا عن نصوص الوعد المشئوم وصك الانتداب، حين ساندت اليهود بجيشها الذي كان يحتل الأرض الفلسطينية، وبتشريعاتها المنحازة، وبإجراءاتها العملية وتسهيلها هجرة اليهود التي هدفت إلى إقامة تجمعات استيطانية، وتغيير الواقع الديمغرافي لمصلحة اليهود آنذاك في فلسطين.
نظرةٌ قانونيةٌ ثاقبة إلى وعد بلفور تؤكد انعدامه قانونًا، لكونه جاء من جهة لم تكن مُخَولة قانونًا في تلك اللحظة؛ فحكومة بريطانيا لم يكن لها حين أصدرت وعدها المشئوم أي ولاية قانونية أو سياسية على أرض فلسطين، أيضًا هذا الوعد أُعطِي لشخص لم يكن يمثل اليهود رسميًّا بحال من الأحوال، وجاء الوعد دون قبول أو مشاورة أصحاب الأرض الفلسطينيين، ودون موافقة الدولة العثمانية صاحبة الولاية القانونية على أرض فلسطين لحظة إصدار الوعد البريطاني المشئوم.
من يقرأ نصوص وعد بلفور يلحظ غطرسةً بريطانيةً واضحة، وهي تنفي صفة الشعب عن الفلسطينيين الذي كانوا يشكلون أكثر من 92% من سكان أرض فلسطين آنذاك، إذ وصفهم الوعد البريطاني بـ"غير اليهود"، وفي الوقت ذاته أشار ذاك الوعد إلى شتات اليهود وجماعاتهم المتفرقة والمستقرة في مختلف بلدان العالم بـ"أمة واحدة"، وهذا ينافي واقع الحال آنذاك، وهي صياغة تشير إلى حالة من الكِبر والغطرسة كانت تعيشها بريطانيا خلال حقبة سقوط الدولة العثمانية.
ونظرًا إلى ما لحق الشعب الفلسطيني من ظلم تاريخي وقانوني نتيجة الوعد البريطاني لليهود؛ إن بريطانيا تتحمل المسئولية المباشرة عن اضطهاد الشعب الفلسطيني، وتهجيره بقوة السلاح من أرضه، وإقامة كيان للصهاينة فوق الأرض الفلسطينية المحتلة، وهي شريك مباشر في المسئولية عن جرائم الحرب التي ارتكبها الصهاينة بحق الشعب الفلسطيني منذ استجلابهم من بقاع شتى في العالم، وإقامة دولتهم الشاذة عن ثقافة وتاريخ وتراث المنطقة العربية حتى يومنا هذا.
كثيرة هي الشواهد التي أكدت رغبة بريطانيا في التخلص من المشكلة اليهودية، وإبعاد اليهود المنبوذين من المجتمعات الأوروبية آنذاك، وإرسالهم إلى عمق المشرق الإسلامي، لتمزيق العالم الإسلامي وتقسيم الأراضي العربية التي كانت تحت الولاية العثمانية من جهة، وتشكيل قاعدة عسكرية متقدمة للدفاع عن أوروبا في مواجهة العرب والمسلمين من جهة أخرى، وهنا تلاقت المصالح البريطانية مع الجهات الممثلة لشتات اليهود في دول العالم، وكان إصدار "وعد بلفور" هو الخطوة التنفيذية الأولى لتنفيذ اتفاقية سايكس بيكو وإقامة كيان لليهود على أرض فلسطين.
واليوم مع الإصرار البريطاني على عدم الاعتراف بالجريمة السياسية والقانونية التي ارتكبتها الحكومة البريطانية قبل مئة وأربع سنوات، مع إدراكها عواقب ذلك الوعد من اضطهاد ومعاناة للشعب الفلسطيني الذي ما زال أكثر من ستة ملايين من أبنائه يعيشون في مخيمات اللجوء والشتات، نتيجة الوعد البريطاني وما تبعه من سياسات نفذتها بريطانيا ضد الشعب الفلسطيني طوال مدة احتلالها أرض فلسطين؛ نؤكد أن التجاهل البريطاني للجريمة لا ينفي الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في التعويض عن عواقبها.
ختامًا إننا الفلسطينيين نؤكد تمسّكنا بكامل حقوقنا المشروعة في نَيْل الحرية والاستقلال، ومع حالة الضعف التي تعتري قضيتنا بسبب سياسات وإجراءات الاحتلال الصهيوني ضد أبناء شعبنا؛ لن نتنازل عن مطالبتنا الحكومات البريطانية المتتالية بتحمّل المسئولية القانونية، والإقرار بما اقترفته بريطانيا من جريمة سياسية وقانونية، وتعويض اللاجئين الفلسطينيين عن الأضرار التي أصابتهم نتيجة إصدار ذاك الوعد المشئوم، وما تبعه من سياسات عدوانية لا يزال شعبنا يدفع ثمنها من دماء ومعاناة أجياله المتلاحقة إلى يومنا هذا.