فلسطين أون لاين

لِمَ على غزة أن تعتذر؟

-1-

كلما سجلت غزة نصرا على العدو، هبت أقلام موتورة ومأجورة ومهزومة ومأزومة، محاولة تسخيف هذا النصر والتقليل من شأنه، وربما دفعها للاعتذار عنه، ثم تنبري كل قوى الأرض لحرمانها من قطف ثمار أي نصر صغيرا كان أو كبيرا، كي تثبت هذه القوى أن طريق الكرامة والكبرياء والقوة لا تفضي إلا لمزيد من المعاناة، ولترسيخ روح الهزيمة في عقل الأمة الجمعي، ولقتل أي بذرة تمرد أو عنفوان في نفوس الأجيال!

يروى عن أحد قادة العدو الصهيوني قوله أن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت، ويبدو أن هذه "النظرية" تطورت فيما بعد فتوسعت في مفهومها لتصبح أن المسلم أو الإسلامي الجيد هو السجين أو القتيل أو المعارض، أو المطارد، أما أن يصبح سيد نفسه وحاكم مصيره، فهي صورة غير مستساغة أو مهضومة، على المسلم أن يبقى ذيلا تابعا وضحية على الدوام، أما أن يرفع رأسه ويلقن العدو ما يستحق من عقاب على توحشه، فتلك معادلة مرفوضة، لهذا كلما رفع شعب مسلم رأسه في بقاع الأرض كافة، جُردت السكاكين لذبحه، والتنكيل به، وها تجارب الحركات الإسلامية على مدار أكثر من مائة عام، منذ قضوا على الخلافة، تشهد على مدى توغل هذه "النظرة" في كيفية التعامل مع كل من يحاول أن يشذ عن "القاعدة" الشريرة.

في كل مرة خاضت غزة الحرب المفروضة عليها مع العدو، وخرجت مرفوعة الرأس، رافضة رفع الراية البيضاء، كان عليها أن تعتذر عن النصر، وعليها أيضا أن تثبت نصرها فعلا كان نصرا، وسط محاولات الانتقاص منه والتشكيك فيه، وحتى تسخيفه والتقليل من قيمته، فمرة صواريخها مجرد مواسير من التنك، ومرة هي تدفع شعبها للانتحار، ومرة يقال أنها سبب معاناة شعبها وحصارهم، كأن على الضحية أن تعتذر عن كرامتها وقوتها، مشكلة غزة الرئيسة أنها الوحيدة التي لم تطأطىء رأسها في زمن غدا فيه التماهي مع الاحتلال والشراكة معه، هو الصورة النمطية البديلة، التي أريد لها أن تحل محل الصورة المتمردة التي خلقتها غزة!

يبدو أن أي إنجاز مهما كان كبيرا أو متواضعا، كان يجب ألا يكون، لأن كثيرا ممن أشبعونا كلاما عن المقاومة، لم يكونوا مستعدين لتقبل فكرة عجزوا عن تحقيقها، فلم يصدقوا أن بوسع أحد تحقيق ما عجزوا عنه، هل كان نصرا في غير موسمه، كما الفاكهة الصيفية حينما نراها على موائد الآخرين في عز الصيف؟

كل مخاوفنا كانت باتجاه الخشية من عدم ترجمة أي إنجاز عسكري في غزة إلى مكاسب سياسية، هذه ليست جريمة المقاومة بل جريمة من يخذلها، ماذا على أصحاب الإنجاز أن يفعلوا؟ هل تعيَّن عليهم أن يعتذروا عنه؟

كيف يقوى أحد أبناء هذه الأمة على السخرية من مقاتلين أذاقوا عدوها ألما لم يتذوقه من قبل، وألحقوا بـ "أزعر الحي" منفوش الريش إهانة عجزت عن إحداثها تنظيمات وجيوش جرارة، ودول تتغنى بترساناتها العسكرية؟

أما ما يقهرك أكثر فمن يبرر للعدو الصهيوني جرائمه، ويقول إن المقاومة هي التي دفعت العدو الصهيوني لارتكاب جرائمه الوحشية قي غزة، هل هناك تخاذل وهبوط أكثر من هذا؟ ألا يبرر هذا الكلام للعدو كل ما ارتكبه من وحشية؟

-2-
من يقرأ تاريخ هذه المنطقة يعرف أن الإسلاميين كانوا على الدوام وقود معارك الاستقلالات منذ منتصف القرن الماضي وما قبله، وما هي إلا أيام أو شهور، حتى قفز أصحاب الأفكار الأخرى، من عسكر وقوميين وطائفيين إلى كراسي الحكم، وقلبوا ظهر المجن لمن ضحى بروحه وجاهد حق الجهاد، وأداروا ظهورهم لهوية هذه الأمة وحضارتها وثقافتها، فأضاعوا من عمرها عقودا طويلة في لعبة تواطؤ طويلة ومريرة مع الغرب، فباعوا الأوطان ورهنوا مقدراتها، وبددوا ثرواتها من بترول وغيره، حتى إذا تنبه الإسلاميون للعبة القذرة خاضوا غمار الساحة، فقدموا برامجهم ورؤاهم، ومشروعهم النهضوي لإنقاذ البلاد والعباد من العبودية والارتهان للأجنبي.
طيلة عقود كان الإسلاميون يزرعون، ثم يأتي الآخرون لقطف الثمار، لقد تعامل الإسلاميون بطيبة إن لم يكن بسذاجة، وبأخلاق عالية مع الحكام والسلطات المختلفة، وآثروا على أنفسهم وعفّوا عن المناصب، فماذا كانت النتيجة؟ تمدد الكيان الصهيوني في المنطقة، وتسابقت الأنظمة لإرضائه، وخاضت معه معارك فارغة، مكنته من ابتلاع كل فلسطين، وأجزاء من مصر وسوريا، ثم كافؤوها بمعاهدات "السلام" والتنسيق "الأمني"، ولم يكفه ما حقق، فاستمر في جبروته ووحشيته، فنكل بالشعب الفلسطيني، وتُرك هذا الشعب لقمة سائغة في فمها، بل إن من يفكر اليوم بمواجهتها أو إيذائها يزج به في غياهب السجون، ويحاكم بتهم باطلة، أقلها بأنه "إرهابي" حتى وفق قوانين أنظمة العرب، ولأن غزة تمردت على هذا السياق، كان رأسها مطلوبا، ومرفوضا كل ما تجترحه من منجزات في مواجهة العدو..

تحية لغزة العزة والكبرياء، غزة التي كرمها الله بالقدرة على جدع أنف العدو وقهره، في زمن تنحني الهامات للعق بساطير جنوده.