أصبح عزوف جيل التجنيد الشاب للتجمع الاستيطاني في فلسطين المحتلة عن الخدمة في الجيش ظاهرة مقلقة حين تزداد وتيرتها كل عام بعد تراجع سمعة هذه "البقرة المقدسة" التي ملأت الآفاق لعقود، بعد سلسلة التراجعات الدرامية التي تمتد اليوم لأكثر من ثلاثين عامًا ونيف!
لقد شكلت معارك تشرين عام 1973 بداية لهذا المسار نزولًا وحتى الغد، حين استطاع الجندي العربي في مصر وسوريا إنجاز نتائج مبهرة في أيام الحرب الأولى واستعداده للتضحية ثقة منه بربه وشعبه وعدالة قضيته وبغض النظر عن النتائج التي آلت إليها التطورات اللاحقة للمساومات وكذلك النتائج.
وجاءت حرب الصمود في حصار بيروت وانتفاضات الشعب الفلسطيني العظيمة منذ انتفاضة الحجارة عام 1987 وحتى انتفاضة الأقصى عام 2000 وما تلاها من هبات وعدوان تموز على جنوب لبنان عام 2006 وانتصار المقاومة الإسلامية الساحق بموازاة نصر المقاومة الفلسطينية بعد معارك "الوهم المتبدد" عام 2006، أيضًا مرورًا بكل معارك المنعطفات الغراء وليس انتهاء بانتصار جولات "سيف القدس" عام 2021 الذي لن يغمد حتى الظفر العزيز والقريب إن شاء الله.
لقد شكلت تلك المعارك المجيدة التي خاضها محور المقاومة نموذجًا وعنوانًا لمرحلة جديدة تمامًا مع هذا العدو الصهيوني المتغطرس وللعد التنازلي لتلك الأسطورة المتداعية التي نسجت في مخيال العقل العربي، حتى كادت تصبح حقيقة غير قابلة للنقض، وقد كان ذاك الجيش فيما مضى قادرًا على إنجاز أهدافه كاملة في بضع ساعات أو أيام على أكثر تقدير، فقد كان يختار الدولة وساحة القتال ومتى يبدأ وينتهي وماهية الأهداف حين يقرر حربه الاستباقية ليعيد الوضع في الجبهة التي يريد إلى ما كانت عليه أو حتى إلى ما هو أبعد من ذلك تحت شعار: "جز العشب" كلما استطال.
وجيش العدو الذي كان بعيدًا عن أي نقد كان ولعقود، بل ومصدر فخر وخيلاء حتى أضحى الجنرالات هم القادة الفعليين للتجمع الاستيطاني في فلسطين المحتلة، وهم الذين يديرون دفته إن كانوا في ميدان القتال أو بعد تقاعدهم وزراء للمالية أو الثقافة والإعلام والاقتصاد والخارجية.
لقد كان هذا الحصاد الخائب والمر نتاج تضحيات جليلة ولدماء عزيزة قدمها الأبناء البررة لشعبنا الفلسطيني الصابر والصامد وشعب لبنان الشقيق ودعم شعوب أمتنا العربية والإسلامية.
كان هذا منذ المحطات الفارقة للهرب الكبير لجيش العدو من جنوب لبنان عام 2000 ومن غزة العزة عام 2005.
كل ما تقدم من هزائم ومحطات نوعية فارقة فرض على العاملين في جيش الغزاة الطامعين التوقيع على عرائض ترفض المشاركة في وحدات المشاة القتالية التي تسجل حالات هرب تبدأ في الازدياد كلما اقتربت من جبهات القتال، إذ يطالب هؤلاء بالخدمة غالبًا في وحدات السايبر.
كما انتقلت هذه العدوى إلى عائلات الجنود التي تتظاهر ضد أداء قيادات الجيش حين تحيق بهم الهزائم وحين يتركون جنودهم خلفهم أسرى بيد المقاومة ويجبنون عن دفع الأثمان لاستعادتهم وتطبيقهم لقانون "هانيبعل" حين يهاجمون جنودهم وآسريهم بهدف قتلهم جميعًا وكأن الهزيمة لم تقع أو أن الخذلان غير قائم، ما دفع العديد من جنودهم للقول: "نحن إن لم نقع أسرى، فنحن ميتون، إما من جيشنا أو من العدو!".
كل هذه الارتدادات ظهرت حين تشكلت اللجان للتحقيق والتدقيق في أسباب الهزائم المتتابعة لهذا الجيش الأقوى في الشرق الأوسط وفي الإقليم كله، بل إنه واحد من الجيوش العشرة الأقوى على المستوى الكوني!
جاء تقرير "غرانات" بعد حرب 1973، وتقرير "فينوغراد" بعد عدوان تموز 2006 على جنوب لبنان، ثم تقرير مراقب الدولة المستشار يوسف شابيرا بعد عدوان تموز 2014 والذي نشر في 28 شباط 2017 والذي فصل في إخفاقات قادة جيش العدو السياسيين والعسكريين في التعامل مع أخطار أنفاق المقاومة قبل وفي أثناء العدوان على قطاع غزة.
والتقرير المكون من 180 صفحة وجه انتقادات لاذعة لكل من أداروا معاركهم الفاشلة وفي المقدمة منهم رئيس الوزراء المتصرف بنيامين نتنياهو ووزير الجيش السابق موشي يعلون ورئيس الأركان السابق وزير الجيش الحالي بيني غانتس ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق ورئيس الأركان الخالي آفيف كوخافي في العدوان الذي استمر مدة واحد وخمسين يومًا.
لقد أكد التقرير أن العدوان الذي سموه "الجرف الصامد" كان منحدرًا سحيقًا هوت معه سمعة هذا الجيش وهيبته وكل تاريخه، وأن ما أعدوه لاحتلال غزة غرق في رمالها المتحركة على مبعدة مئات الأمتار من السلك الشائك الزائل والفاصل لا أكثر!
وكشف التقرير عجز تلك القيادات التي تقود الجيش الآن (غانتس وكوخافي)، عن إدراك حجم التهديدات أو تحديد الإستراتيجية وعن تجهيز الجيش بما يمكنه من الدفاع عن مستوطني الكيان وعلى نحو أخص مستوطنات الجنوب المحاذية للقطاع.
وأشار التقرير إلى أن نتنياهو أخفى معلومات أساسية عن الجميع بما في ذلك "الكابنيت" المصغر -ونكتشف أن محمود عباس ليس وحده في هذا المستنقع- ما اضطر الجيش للتعامل مع الأهداف حين كانت تظهر له صدفة ودون توقع أبدًا ودون تخطيط، ومن ثم غياب أي خطة أو استعداد مسبقين!
بل إن جيشهم كان لا يملك إستراتيجية محددة للتعامل مع الأنفاق من حيث المبدأ أو عن طبيعتها وعن أن نصفها كان هجوميًّا يخترق الأرض ما بعد السياج وإلى أعماق بعيدة خلف خطوط الجيش وأن جيشهم لم يدمر سوى النزر اليسير منها!
ويصيف شابيرا، أن الأنفاق كانت مفاجأة عدوان تموز 2014 بالكامل وقد أثبتت فاعليتها وكانت سلاح رعب إستراتيجيًّا مكَّنت رجال المقاومة من تصعيد عملياتها ومن القيام بعمليات تسلل نوعية قاتلة ومذلة خلف الخطوط كبدت الجيش خسائر فادحة في الأرواح وفي عمليات القنص والأسر وقد حيدت وشلت إلى حد بعيد سلاح المدرعات، وبدل أن تفرض على المقاومة رفع العلم الأبيض كما تبجحت وادعت، اندحرت وولت الأدبار.
ويتضح أن هذا التراجع أمسى سمة دامغة تتكرس مع كل عدوان ولا مناص منها، وأنها لعنة ستأخذ في طريقها آفة هذا العصر وهذا الزرع المر مرة وإلى الأبد، فقد جاء في تقرير قدمته القناة الصهيونية 12 أن تحقيقات سرية أجراها جيش العدو بعد العملية الأخيرة التي وسموها بـ"حارس الأسوار"، أن الجيش كان يزور الحقيقة، وكان يقدم صورة منفصلة عن الواقع تمامًا بما أضر بشكل فادح بعمليات القوات وبثقة الجمهور بالجيش.
ويشير التقرير الاستخباري إلى أن التحقيقات أكدت أن هناك فجوة عملياتية خطيرة في قدرة الجيش على استهداف أنظمة الصواريخ والأسلحة المضادة للدبابات والقناصة في غزة.
وهناك أمر في غاية الأهمية الاستخبارية ذكره التقرير وهو النقص الحاد في المعلومات الاستخبارية، فقد فشل الجيش في الكشف عن معظم مطلقي الصواريخ، أو في تحديد مواقع معظم الخلايا الفاعلة في قوات المقاومة وصنوف أسلحتها.
كما فشل وعلى نحو ذريع أيضًا في معرفة مواقع قيادات حماس أو فصائل المقاومة قاطبة.
وخلال مناورته الأخيرة التي بدأت يوم 26 تشرين الأول الفائت والتي استمرت لثلاثة أيام، فقد ذكر العدو أنها محاكاة لما يمكن أن تقوم به حركة حماس من نسف للجدار بعبوات ناسفة ضخمة محملة على شاحنات كبيرة تجتاح خط الفصل تتمكن من خلالها من إحداث فجوات واسعة في غير موقع ينطلق بعدها مجاهدو كتائب عز الدين القسام وفصائل المقاومة الأخرى وتحرير مناطق من جنوب فلسطين متصلة بقطاع غزة وأسر جنود وحصار مستوطنين وأسرهم والقيام بقصف مستوطنات ومدن فلسطين المحتلة وفرض وقائع جديدة هي حقائق عصر ظفر ثورة الشعب الفلسطيني المرابط المنتصر بإذن الله.