بتصريح واحد فقط، استطاع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يجعل عشر دول -على رأسها أمريكا- أن تتراجع عن قرار اتخذته فيما يخص رجل أعمال محبوسًا في السجون التركية بتهمة المشاركة في انقلاب 2016، هذه الدول العشر كانت قد أوعزت إلى سفرائها في أنقرة بإصدار بيان قالت فيه: إن القضية المستمرة بحق رجل الأعمال عثمان كافالا تلقي بظلالها على الديمقراطية وسيادة القانون في تركيا، داعية إلى الإفراج عنه.
وعلى الفور أمر أردوغان وزير خارجيته تشاووش أوغلو بإعلان هؤلاء السفراء "أشخاصا غير مرغوب فيهم"، وقال إنهم يفتقرون إلى اللباقة، وما هي إلا ساعات حتى استدعت الخارجية التركية السفراء لإبلاغهم بالقرار الرئاسي، فخرجوا من اللقاء مصدومين من العصا التركية الغليظة التي رُفعت في وجوههم، وأخذوا يتباحثون مع دولهم كيف سيخرجون من الأزمة التي وضعوا أنفسهم فيها، غير أنهم تداركوا الأمر، فنشرت السفارة الأمريكية على موقع تويتر تغريدة فحواها أنها تحترم اتفاقية فيينا التي تضع إطارا للعلاقات الدبلوماسية، وتحظر أي تدخل في الشؤون الداخلية للبلد المضيف، وأعاد نشرها بقية السفراء المشاركين في البيان الأول.
تركيا اعتبرت البيان الأخير تراجعًا لهذه الدول، ونصرًا لها ولدبلوماسيتها، فرحّب به الرئيس أردوغان وأحجم عن طرد السفراء، وانتهت الأزمة مؤقتًا، إلا أن صداها سيبقى على مدى بعيد في العلاقات بين تركيا والغرب، لكن ما الذي يمكن أن نستفيده نحن العرب -والفلسطينيين على وجه الخصوص- من هذه الأزمة، وكيف يمكن أن نستخلص العبر والدروس منها؟
هناك أمور مهمة يمكن قراءتها في ثنايا هذه الأزمة بعيدًا عن تفاصيل القضية:
أولها: الكرامة قبل كل شيء، فعندما شعر أردوغان أن هؤلاء السفراء حاولوا أن يتدخلوا في سياسات دولته، وأن يقللوا من كرامة بلده اتخذ قراره الجريء بالطرد، هذا القرار الذي لم يستطع أن يتخذه أي رئيس عربي
-ولن يستطيع-، اتخذه أهل قطاع غزة حين طردوا ماتياس شمالي مدير عمليات أونروا في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، واعتبروه شخصا غير مرغوب فيه عندما اصطف إلى جانب الاحتلال وقلل من احترام البلد المضيف له.
ثانيها: الجرأة في اتخاذ القرار وعدم الخوف من التبعات الآنية لأي قرار إذا كان له مصلحة إستراتيجية مدروسة، فعندما قرر أردوغان طرد السفراء هبطت قيمة عملة بلده المحلية مؤقتا، وكاد أن يتسبب بأزمة دبلوماسية مع 10 دول كبيرة، فلو أنه لم يتخذ ذلك القرار الجريء لتمادى الغرب وتدخلوا في كل قرارات بلده، لكنه آثر أن يتحمل الأثر القريب لقراره على أن يكسب الأثر الإستراتيجي البعيد، المتمثل في ترسيخ استقلالية قراره، وهذا درس مستقبلي يجب أن يتعلمه أصحاب القرار الفلسطيني.
ثالثها: وهذا يخص أهل غزة بالتحديد، وهو العمل على مراكمة القوة حتى تستطيع أن تكون نِدًّا في كل شيء، فأردوغان لم يكن ليتجرأ أن يتخذ مثل هذا القرار إلا لأنه مرتكز على قوة بلده السياسية والعسكرية، صحيح أننا لا نملك في غزة دولة ولا استقلالاً جغرافيًّا، إلا أننا نستطيع أن نحافظ على مراكمة القوة التي وقفت ندًا في وجه رابع قوة عسكرية في الشرق الأوسط، واستطاعت أن تفرض نفسها على الإقليم بفضل قوتها "المتواضعة"، وهذه دعوة إلى قيادة غزة بألا تضع سلاحها على أي طاولة مفاوضات قادمة.
وعلى الجهة المقابلة من هذه الأزمة، يأتي دور السفراء العشرة في خدمة مصالح بلدانهم -حتى وإن كانت استعمارية- فبكل تأكيد هؤلاء السفراء لم يتحركوا إلا بناء على أوامر عليا من دولهم، وتلبيةً لمصالحها وقضاياها التي تعتبرها وطنية، وإذا نظرنا إلى سفرائنا الفلسطينيين وإلى ما يقومون به فسنجد ما يدمي القلب.
يبلغ عدد السفارات أو البعثات الدبلوماسية الفلسطينية المنتشرة في العالم الآن قرابة 94 بعثة: 25 بعثة في إفريقيا، و25 في آسيا، و32 في أوروبا، و5 في أمريكا الشمالية، و6 في أمريكا الجنوبية، وواحدة في أوقيانوسيا، فضلًا عن الوفود والمكاتب التمثيلية التي تمثل السلطة الفلسطينية في بعض الدول التي لا تعترف بدولة فلسطين أو تعترف بها جزئيا، وهناك وفود ومكاتب تمثيلية في عدد من المنظمات الدولية.
ولكن الخدمات التي يقدمونها للقضية الفلسطينية صفر كبير في الجانب الإيجابي، ورقم كبير في الجانب السلبي، هذا ما تؤكده الوثائق عن فساد سفارات فلسطين في الخارج، وعن إهمال السفراء وإساءاتهم للشعب الفلسطيني، فمعظم موظفي السفارات يعملون في الغالب بالتجارة، ويستغلون مناصبهم وتمثيلهم لتمرير مصالحهم التجارية التي تتعمق مع الزمن مع تجار البلد الذي يقيمون فيه، وقلما يكترثون بالمراجعين الفلسطينيين، ويتعاملون معهم بنوع من الخشونة والجلافة.
وما تواطؤ سفارة فلسطين في بلغاريا وتسببها في اغتيال الشهيد عمر النايف على يد الموساد الإسرائيلي، ثم فضيحة سفير فلسطين في إسبانيا كفاح عودة الذي أثار موجة غضب واسعة في صفوف الفلسطينيين، بسبب عدم تمكنه من محاورة المذيعة باللغة الإسبانية رغم أنه يعمل سفيرا هناك منذ ١٥ عاما، إلا خير دليل على فساد السفارات الفلسطينية التي لا يمكن لها أن تختلف عن بقية المؤسسات الفلسطينية، فهي ابنة النظام الذي ثبت فساده كما أظهر تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية لعام 2020.
نحن لا نريد منهم أن يكونوا أقوياء كقوة السفراء العشرة، كل ما نريده أن يكونوا فلسطينيين فقط، ونريد من القادة المستقبليين للقضية الفلسطينية -وأعني قيادة المقاومة- أن يكونوا على قدر كبير من الفطنة، وأن يولوا أهمية كبيرة لقضية السفارات والبعثات والجاليات الفلسطينية من الآن فصاعدًا، لِما لها من أهمية كبيرة في نصرة قضايانا الوطنية.