برز خلاف بين الاتجاهات الشبابية في الساحة الفلسطينية بعد اتفاق التنسيق الأمني 2007، وراح الخلاف يتفاقم كلما أخذ طريقه إلى التنفيذ. وقد دار حول إعطاء الأولوية في الصراع بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني.
لكن ما من أحد يعطي الأولوية ضد السلطة الفلسطينية وتأجيل الأولوية في الصراع ضد الكيان الصهيوني، وإنما خوض الصراع ضد كل منهما في آن واحد. وهذا رأي يتبناه أحد الأطراف الشبابية؛ لأن من الصعب أن تجد اتجاهاً يطالب بتأجيل الصراع ضد الاحتلال حتى يصفي الحساب مع السلطة، علماً أن من الصعب، ويكاد يكون من المحال، أن تجد من يأخذ بهذه الممارسة (الإستراتيجية). ولكن يمكن أن تجد، في النقاش، من يعد أن التخلص من سلطة التنسيق الأمني شرط تصعيد المقاومة ضد الاحتلال، ومن ثم يعطيها الأولوية.
المهم أن كثيرين يميلون إلى المساواة بين الأولويتين، أو الأخذ بالأولويتين في آن واحد. ويبرز هذا الموقف أكثر عندما يواجهون بالرأي الآخر الذي يقول بالأولوية المطلقة للصراع ضد الاحتلال، مقاومة وانتفاضة، وحصر الصراع مع السلطة بنقد سياساتها وممارساتها، خصوصاً في التنسيق الأمني.
ويعزز هذا الاتجاه الأخير موقفه بالقول: أولاً إن من المحال عملياً الأخذ بأولويتين في الساحة الفلسطينية، على هذا القدر من التداخل في آن واحد، وثانياً إن سلطة التنسيق الأمني تأخذ طريقها إلى العزلة والاختناق كلما تصاعد الاشتباك مع العدو من جهة، وكلما فشلت، من جهة أخرى، في سياستها، وفقدت مشروعها الذي سوّغت من خلاله لجوءها إلى التنسيق الأمني، كما هو حادثٌ الآن.
صحيح أن معظم الثورات وحركات التحرير في العالم اعتبرت من يتعاون مع الاحتلال عدواً، كما الاحتلال، وتعاملت وإياه كذلك، ولكن في الوضع الفلسطيني الراهن ثمة خصوصية من هذه الناحية، تختلف عن كل التجارب العالمية، وهي أن الفئة التي تمارس التنسيق الأمني (قيادة حركة فتح وبعض كوادرها) هي من قاد المقاومة ودخل المساومة، مما أبقاها مؤيّدَة من قطاع مُقدّر من الشعب الفلسطيني، فيما القوى التي تعاونت مع الاحتلال أو مع العدو في التجارب العالمية كانت عميلة للعدو وتابعة لمشروعه وقراراته، ولهذا كانت في حالة شبه إجماعية من النبذ من قِبَل أغلبية الشعب.
طبعاً إن تاريخ فتح المقاوم لا يُسوّغ لها ولا يبرر أن تنسّق أمنياً مع العدو، أو تتنازل عن أي من منطلقاتها واستراتيجيتها المقاومة.
ولكن يبقى لهذا التاريخ واقعٌ راهن ما، يتسم بعدة أوجه يجب أخذها في الاعتبار، ولا سيما عندما يصل السيل الزبى ويذهب إلى الدم.
وهنا تبرز إشكالية أخرى عندما ينتقل الصراع الداخلي إلى الدم، حيث للشعب الفلسطيني خصوصية، تتسم بقوّة الروح الثأرية عندما يقع الدم المسفوك. وهو ما عبّرت عنه تجربة ثورة 1936-1938، إذ انشطرت كل القرى إلى "قيس ويمن"، وامتدت ذيولها لعشرات السنين، فكيف يمكن إيقاظها من جديد وهي فتنة مدمرة كارثية؟
لقد ضرب الشهيد القائد الشبابي باسل الأعرج وثُلة من إخوانه مثلاً يُقتدى، وذلك عندما اعتقلتهم السلطة وهم في طريقهم لتنفيذ عملية مقاومة ضد الاحتلال. وكان بمقدورهم الإفلات من الاعتقال، لو وجهوا سلاحهم لقوات التنسيق الأمني، وعلقوا بفخ الدم الفلسطيني. أما بعد أن أطلق سراحهم بعد تعذيبهم وسجنهم لعدة شهور، فقد راح العدو يعتقلهم الواحد تلو الآخر. ولكن باسل فرّ من الاعتقال، أو الاغتيال السهل، واستخفى عن الأنظار، حتى كشفت قوات التنسيق الأمني مكان مخبئه، لتأتي قوات صهيونية لاعتقاله أو اغتياله، فووجهت بمعركة بطولية، ارتقى فيها باسل شهيداً بعد أن أثخن بمهاجميه.
وبهذا تحوّل باسل الأعرج قدوة للشباب، ونموذجاً أعلى؛ لأن معركته كانت في مواجهة قوات الاحتلال، واستشهاده في اشتباك مع الاحتلال، في حين لحق العار بسلطة التنسيق الأمني، لتزداد عزلة وسوء سمعة، بسبب دورها المزدوج في التنسيق الأمني، سواء أكان في الاعتقال الأول أم في الاغتيال الثاني.
بيد أن المشكل النظري والمنهجي في الإجابة عن السؤال: أين توضع الأولوية في الصراع الفلسطيني؛ للعدو الذي اغتصب فلسطين واحتلها كلها (عدا قطاع غزة الذي تحرّر بالرغم من استمرار حصاره)، أم لسلطة التنسيق الأمني التي جعلت تجرِّد المقاومة من سلاحها، وتعتقل وتسّلِم للعدو كل مقاوِم ومقاوِمة، وراحت تناهض كل محاولة انتفاضة، وكل انتقال جماعي للشعب الفلسطيني، أو وحدة وطنية، إلى الانتفاضة والمقاومة؟ أي إحباط الاستراتيجية الوحيدة التي يمكن أن تفرض على العدو انسحاباً، بلا قيدٍ أو شرط، من الضفة الغربية والقدس، ويمكنها أن تذود عن المقدسات والمسجد الأقصى وتمنع الاستيطان والتهويد، وتهيِّئ للتحرير الكامل من النهر إلى البحر. وهو ما ثبت إمكان تحقيقه من خلال الانتفاضة الثانية، وما عرفته من مقاومة، حيث تحرّر قطاع غزة وفككت المستوطنات، بلا قيدٍ أو شرط، تحت عنوان "فك الارتباط".
فلم تأخذ السلطة بقيادة رئيس فتح محمود عباس العبرة من درس الانسحاب من قطاع غزة، أو العبرة من فشل اتفاق أوسلو، وكل نهج المفاوضات والتسوية، والذي مارسه وعاد منه بخفي حنين من حيث هدفه، والأشد نكاية خرج منه بالتنسيق الأمني، وبوظيفة حماية الاحتلال والاستيطان، ما ترك سلطة رام الله الآن تترنح لتسقط أرضاً.
ومن هنا، وهذا ما يجب أن يتنبه إليه الشباب الذين يأخذون بنهج الأولويتين (حمل بطيختين بيد واحدة)، فإن مسار الأحداث الواقعي أعطى الأولوية للمقاومة والانتفاضة ضد الاحتلال. وهو أيضاً طريق حلّ التناقض مع السلطة، إلى جانب ما ترتكبه من أخطاء في خطها السياسي وممارستها، حيث راحت تخرّب بيتها بيديها.