لا نعرف من تاريخنا الحقيقي إلا القليل، فقد تعهدت مناهجنا التي ندرسها لطلابنا بتشويه ذاكرتنا الجمعية، خاصة حين يتعلق الأمر بتاريخ العثمانيين، الذين تصورهم مستعمرين وظلمة ومتخلفين، لأنها تركز على أواخر الدولة العثمانية، حينما بدأت الهجمة عليها من الداخل والخارج، ثم جاء أتاتورك وجمهرة العلمانيين لإكمال مسيرة التشويه، ورأينا من ثم من يخوف الناس من "الأسلمة" داعيًا إلى العلمانية، نقيضًا للدولة الدينية، وهو تشويه مقصود لمفهوم الدولة في الإسلام، وهي دولة مدنية لا ثيوقراطية مستبدة.
من المواقف البالغة الدلالة على عظم هذه الدولة "المدنية" ما يذكره أورخان محمد علي في كتابه اللطيف: روائع من التاريخ العثماني، حين علم السلطان (سليم الأول) أن الأقليات غير المسلمة الموجودة في (إسطنبول) من الأرمن والروم واليهود، بدأت تتسبب في بعض المشاكل للدولة العثمانية، وفي إثارة بعض القلاقل، فغضب لذلك غضبًا شديدًا، وأعطى قراراه بأن على هذه الأقليات غير المسلمة اعتناق الدين الإسلامي، ومن يرفض ذلك يضرب عنقه، وبلغ هذا الخبر شيخ الإسلام (زمبيلي علي مالي أفندي)، وكان من كبار علماء عصره، فساءه ذلك جدًّا، ذلك لأن إكراه غير المسلمين على اعتناق الإسلام يخالف تعاليم الإسلام، الذي يرفع شعار {لا إكراه في الدين}، ولا يجوز أن يخالف أحد هذه القاعدة الشرعية، وإن كان السلطان نفسه، ولكن من يستطيع أن يقف أمام هذا السلطان، الذي يرتجف أمامه الجميع؟! من يستطيع أن يقف أمام هذا السلطان، ذي الطبع الحاد، فيبلغه بأن ما يفعله ليس صحيحًا، وأنه لا يوافق الدين الإسلامي؟! ليس من أحد سواه يستطيع ذلك، فهو الذي يشغل منصب شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، وعليه تقع مهمة إزالة هذا المنكر الذي يوشك أن يقع، لبس جبته وتوجه إلى قصر السلطان، واستأذن في الدخول عليه، فأذن له، فقال للسلطان: "سمعت أيها السلطان أنك تريد أن تكره جميع الأقليات غير المسلمة على اعتناق الدين الإسلامي، كان السلطان لا يزال محتدًّا، فقال: أجل، إن ما سمعته صحيح، وماذا في ذلك؟"، فقال شيخ الإسلام: "أيها السلطان إن هذا مخالف للشرع، إذ لا إكراه في الدين، ثم إن جدكم (محمد الفاتح) عندما فتح مدينة (إسطنبول) اتبع الشرع الإسلامي، فلم يكره أحدًا على اعتناق الإسلام، بل أعطى الجميع حرية العقيدة، فعليك اتباع الشرع الحنيف، واتباع عهد جدكم (محمد الفاتح)"، قال السلطان سليم وحدته تتصاعد: "يا علي أفندي، لقد بدأت تتدخل في أمور الدولة، ألا تخبرني متى سينتهي تدخلك هذا؟!"
فيجيب الشيخ: "إنني -أيها السلطان- أقوم بوظيفتي في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وليس لي من غرض آخر، وإذا لم ينتهِ أجلي، فلن يستطيع أحد أن يسلبني روحي".
فيقول السلطان: "دع هذه الأمور لي يا شيخ الإسلام"، فيقول الشيخ: "كلا أيها السلطان، إن من واجبي أن أرعى شؤون آخرتك أيضًا، وأن أجنبك كل ما يفسد حياتك الأخروية، وإن اضطررت إلى سلوك طريق آخر"، فيسأل السلطان: "ماذا تعني؟".
فيقول الشيخ: "سأضطر إلى إصدار فتوى بخلعك أيها السلطان، بسبب مخالفتك الشرع الحنيف، إن أقدمت على هذا الأمر"، وهنا يذعن السلطان (سليم) لرغبة شيخ الإسلام، فقد كان يحترم العلماء، ويجلهم، وبقيت الأقليات غير المسلمة حرة في عقائدها، وفي عباداتها، وفي محاكمها، ولم يمد أحد أصبع سوء إليها.
ولا أزيد، بل أترك التعليق للقارئ العزيز، ولكنني أذكّره فقط بما فعله علمانيو تركيا ممن ورثوا الخلافة العثمانية مع الرئيس المنتخب مندريس، حينما حكموا عليه بالإعدام شنقًا لأنه أعاد الأذان باللغة العربية وأدى فريضة الحج سرًّا، والتهمة كانت: السعي لإنشاء دولة دينية!
وقل مثل ذلك عن محاولات الداخل والخارج في محاولات تقويض النظام التركي الحالي، فقط لأنه يحاول أن يعيد للبلاد كرامتها التي أهدرتها حقبة العلمنة والتغريب.
وقل أيضًا الكثير اليوم عن علماء السلاطين الذين لا يجدون غضاضة في ممالأة سادتهم، ولو كان على حساب دينهم ودنياهم أيضًا، ولهم ولنا في شيخ الإسلام زمبيلي المثل الطيب، القادم ذكره من عمق الدولة العثمانية التي "ثار" العربان عليها بالتعاون مع الإنجليز والفرنسيين، جريًا وراء حلم "المملكة العربية" التي مسخت، فولدت على يدي سايكس وبيكو مشيخات ودويلات وإمارات، أجلس على كراسي الحكم فيها من لا يرعى في الأمة إلًّا ولا ذمة.
ترى لو طبقنا معيار شيخ الإسلام العثماني على ولاة أمر المسلمين اليوم، فكم من السلاطين سيحال إلى "التقاعد"؟!