لا شك أن نجاح "حزب العدالة والتنمية" في الانتخابات عام 2002م في إدارة الشأن العام التركي أحدث تحوّلًا نوعيًّا فارقًا في الموقف الرسمي التركي تجاه القضية الفلسطينية والحقوق غير القابلة للتصرُّف للشعب الفلسطيني.
لقد حددت وزارة الخارجية التركية ومنذ اللحظات الأولى مرتكزات هذه السياسة تجاه النضال الوطني الفلسطيني على نحو جلي، مما أحدث صدمة فاجعة طرأت مباشرة على ردود فعل دولة العدو، وكذلك على "سيدة الكون الأولى" الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد جاء هذا التغيير الدرامي مفاجئًا لتل أبيب وفي غير أوانه خاصة وأن هناك تاريخًا طويلًا وحميمًا بين البلدين مُعمّدًا باتفاقات كثيرة ومتعددة الحقول على الصعد الأمنية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، وهي ذات بعد تحالفي إستراتيجي تجلّى دومًا خلال اللحظات الحرجة في عدواناتها ضد حلفاء عرب مشتركين وفي مواجهة إرهاصات النضال الوطني الفلسطيني منذ البدايات ومحاولات العدو الصهيوني لإنهاء كل ما يتصل بالثوابت الفلسطينية.
من جانبها توجست شرًا من هذا المتغير على سياسات أنقرة وهي وضعت ولم تزل علامات استفهام كبرى على مستقبل العلاقات بين البلدين وعلى الدور التركي الإقليمي والدولي وتأثيراته السلبية على النفوذ الأمريكي بل وتوقعات تناقضه مع ذلك.
كما قدرت واشنطن أن وصول حزب "العدالة والتنمية" قد يترك آثارًا عميقة على مستقبل ومهام "حلف الناتو" وقاعدة "أنجرليك العسكرية" في تركيا، ولم يكن ذلك مجافيًا للحقيقة حين رفضت تركيا عام 2003م، رفضًا قاطعًا تدخُّل الحلف أو قاعدته في دعم القوات الأمريكية الغازية للعراق، ما اُضطر الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاكتفاء بقواعدها العسكرية في بعض دول الخليج العربي وأساطيلها فيه، وقد ترك ذلك ارتدادات فعلية على بؤر الصراع الإستراتيجية مع إيران وروسيا وامتدادًا إلى امبراطورية التنين الصيني التي بدأت مخاطر تنافسه الاقتصادي مع الاقتصاد الأمريكي بادية للعيان.
لقد شكلت تركيا الجديدة بربانها الطموح رجب طيب أردوغان وحزبه أملًا واعدًا للشعب التركي الذي بدأ يلمس التطور الاقتصادي الفلكي وكذلك الموقع المرموق الذي تتبوأه على المستوى الكوني.
كما أنه وعلى المستوى الفلسطيني فقد كان خطاب تركيا السياسي واضحًا بل صاخبًا في إسناده للقضية الفلسطينية، خاصة في غياب قطب عربي داعم ومنذ غياب الزمن الناصري والأفكار القومية العربية التي كانت تتغنى بمركزية قضية فلسطين وما كان مفاجئًا فيما انتهت إليه تلك الحقبة بهزيمة 5 حزيران والتي لم تكن هزيمة فقط للفكرة الناصرية وإنما لأيديولوجية الفكر القومي العربي كمخلص لهموم ومعضلات عالمنا العربي وفي القلب منه شعبنا الفلسطيني.
لقد ذهب عبد الناصر وقد فقدت مصر دورها التقليدي المؤثر واحتُل قطاع غزة وسيناء وانفصلت السودان عن توأمها مصر!
صحيح أن رجب طيب وحزبه يولون أهمية فائقة لسياسة "تصفير" الخلافات مع دول الجوار الإقليمي وغيرها ولكل خصومها السابقين حيث كان ذلك ممكنًا، تماما كما جاءت تركيا في موعدها سندًا ومبارِكًا لكفاح شعب فلسطين وهي التي لم تصُغ سياساتها على حساب مبادئها بخصوص قضايا الصراع المحتدمة في الجوار والإقليم والعالم.
لقد أرسى "حزب العدالة والتنمية" أساسًا صلبًا لدعم شعبي تركي راسخ للحقوق الوطنية والمشروعة للشعب الفلسطيني وفي دعم الجمعيات الخيرية والأهلية لعديد المشاريع وفي مظاهرات الدعم التي لا تتوقف تضامنًا في وجه العدوانات الدموية على الشعب الفلسطيني وتحركه الدؤوب لكسر الحصار الظالم على قطاع غزة وسيبقى أسطول الحرية وسفينة مرمرة والشهداء الأتراك أيقونة خالدة في سماء فلسطين وهي أنموذج واحد من كثر عطاءات الشعب التركي والتي تستمر فصولها حتى الغد.
أما على المستوى الرسمي فإن لتركيا أيادي بيضاء وهي التي تعتبر القضية الفلسطينية واحدة من همومها الفعلية حتى أن أردوغان وفي غير مناسبة يؤكد دومًا أن الهمجية العدوانية لتل أبيب هي تحدٍ مباشر لتركيا وهو الذي يعلم يقينًا أن القدس وأرض الرباط هما قضية عقدية دينية في عقل وقلب الشعب التركي.
كما تقوم تركيا بحملة دبلوماسية مكثفة ودائمة وعلى كل المستويات مع أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وفي اجتماعات منظمة التعاون الإسلامي والجمعية العامة للأمم المتحدة ولعبت دورًا محوريًّا حين كانت عضوًا في مجلس الأمن انتصارًا للقضية الفلسطينية العادلة.
ولا شك أن لتركيا بعدًا تاريخيًّا عميقًا يرتبط بالحقبة العثمانية حين كانت فلسطين جزءًا منها وكيف حاربت تركيا طموحات الصهاينة وكيف وقفت سدًا منيعًا في مواجهتها ويؤكد المؤرخون أن من أهداف مشروع اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 لتقسيم عالمنا العربي كان إنشاء وطن قومي للغرباء المستوطنين الصهاينة في فلسطين وما كان لهذا أن يجري إلا بعد تم التآمر على الدولة العثمانية وتقسيمها.
لقد أدانت تركيا وبأشد العبارات كل محاولات وإجراءات العدو الاستيطانية والديموغرافية على التراب الوطني وفي القدس العاصمة الأبدية الواحدة الموحدة لفلسطين والحبل السري لمسلمي الدنيا وفي مقدمهم الشعب التركي الشقيق.
إن التحول الجذري للسياسة الخارجية التركية تجاه فلسطين إنما هدفت إلى صياغة دور جديد تقوم بتوظيفه لتسليط منهجي للضوء على مجريات الأحداث دعما لنضال الشعب الفلسطيني المرابط الصامد حتى إنهاء آخر احتلال عرفته البشرية.
لقد أثبتت تركيا وفي أدق الظروف أنها حليف يعتد به، ولهذا فإن فصائل المقاومة الفلسطينية تقيم معها أوثق الروابط وفي المقدمة منها حركة المقاومة الإسلامية "حماس" حتى تحرير الأرض والإنسان وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.