تمر علينا الذكرى العاشرة لصفقة وفاء الأحرار التي نجحت المقاومة الفلسطينية خلالها بالإفراج عن 1027 أسيرًا، من بينهم المئات كانوا يقضون أحكامًا بالمؤبد رغمًا عن إرادة الاحتلال، لتعيد التذكير من جديد بمعاناة خمسة آلاف من الأسرى ما زالوا يقبعون في سجون الاحتلال، الذي يواصل اقتحاماته اليومية للمدن والبلدات في الضفة والقدس المحتلتين، واعتقالاته للفلسطينيين على مدار الساعة دون توقّف.
ونحن نستحضر في أذهاننا يوم الثامن عشر من أكتوبر من العام ألفين وأحد عشر، ذاك اليوم الذي كان يومًا من أيام فلسطين الخالدة، حيث احتشد الفلسطينيون ابتهاجًا بإتمام تلك الصفقة، ولمسافة جاوزت أربعين كيلو مترًا على طول الشارع الرئيس في قطاع غزة، لاستقبال الأسرى المحررين وتوجيه التحية لهم شكرًا وعرفانًا لما قدّموه من زهرات شبابهم في سجون الاحتلال فداءً للوطن ودفاعًا عن الأرض الفلسطينية المحتلة.
تلك الصفقة التي نتفيأ ذكراها اليوم تأتي في ظل محاولات الأسرى المستميتة لانتزاع حريتهم بأيديهم، وقد تابعنا جميعًا كيف تمكّن ستة منهم بالتحرّر من سجن "جلبوع" شمال فلسطين المحتلة، باستخدام أدوات بدائية، ونجحوا في تنسّم الحرية لأيام قبل أن يعيد المحتل الصهيوني اعتقالهم، لتؤكد المقاومة الفلسطينية وعلى لسان ناطقها الملثم بأن تحريرهم واجب تتحمّل المقاومة أداءه ولو بعد حين.
إن نجاح المقاومة الفلسطينية في إخفاء الجندي الأسير لديها آنذاك "جلعاد شاليط" لمدة خمسة أعوام متتالية، دون أن يتمكن جيش الاحتلال الذي يمتلك تكنولوجيا متطورة، وجيشًا يُعد الأقوى في المنطقة من الوصول إليه، أو تحريره من قبضة المقاومة، يؤكد المهارات الفائقة التي يمتلكها رجال المقاومة الفلسطينية، ولا سيما "وحدة الظل" التي أعلن لاحقًا مسؤوليتها بالحفاظ على ذلك الأسير الصهيوني بعيدًا عن أعين الاحتلال.
لقد أكدت لنا تلك الصفقة التي تمّت رغمًا عن الاحتلال، طبيعة اللغة التي يفهمها الاحتلال، الذي لطالما عاش نشوة من الغطرسة والغرور، قبل أن تكسر المقاومة الفلسطينية كبرياءه الموهوم، وترغمه صاغرًا على التنازل والإفراج عن قدامى الأسرى، وأصحاب المؤبدات الذين لطالما أعلن رفضه وتخوّفه من الإفراج عنهم.
ربما ما يدفعنا للأمل بقرب إتمام صفقة جديدة للأسرى، هو أن تخوفات الاحتلال من الإفراج عن قدامى الأسرى، وأصحاب الأحكام العالية منهم قد أضحت حقيقة، فثلّة غير قليلة من الأسرى الذين أُفرِج عنهم في صفقة وفاء الأحرار باتوا اليوم ندًا عنيدًا للاحتلال، ونجحوا في إعادة الكرّة من جديد بأسر المزيد من جنود الاحتلال، وقد أعلنوا هدفهم المُعلَن بتبييض سجون الاحتلال، وانتزاع حرية جميع الأسرى والأسيرات، وباتت آمال الأسرى وعائلاتهم معقودةٌ بقرب إتمام صفقة تبادل أخرى تكسر أنف الاحتلال وتُبدد غطرسته الموهومة من جديد.
إن المتابع للحالة الصهيونية الداخلية يدرك جيدًا الهزيمة النفسية الكبيرة، والخيبة التي أصابت كيان الاحتلال بعد إتمام صفقة وفاء الأحرار، ومحاولاته المتواصلة للتهرّب من إتمام صفقة أخرى تجنّبًا لتكرار الهزيمة، من خلال إنكار وجود أسرى أحياء لدى المقاومة، أو التعامل بعنصرية تجاه بعض الجنود المأسورين لدى المقاومة، أو تبهيت الأثمان التي تطلبها المقاومة مقابل الإفراج عن جنوده الأسرى في غزة، وهي محاولات تدركها المقاومة جيدًا، وتتعامل معها بحنكة سياسية وصبر طويل.
ربما أكثر ما يخشاه الاحتلال هو إقدام المقاومة الفلسطينية على تنفيذ وعيدها بمراكمة أعداد الجنود الأسرى في قبضتها، وهي مخاوف قد تتحقق إذا ما استمر الاحتلال بمراوغته وتهرّبه من إتمام صفقة جديدة، ودفع ثمن تحرير جنوده الأسرى، بالإفراج عن آلاف الأسرى والأسيرات القابعين في سجون الاحتلال.
ستبقى صفقة وفاء الأحرار التي نعيش ذكراها اليوم رواية فلسطينية شاهدة على صلابة المفاوض الثائر، الذي تمسّك بمطالب الإفراج عن قدامى الأسرى، وأصحاب الأحكام العالية، وخاض عشرات اللقاءات التفاوضية غير المباشِرة مع الاحتلال، ونجح فيما فشل فيه الآخرون في دفع الاحتلال مُرغمًا لتحرير الأسرى من السجون، وتقديم تنازلات مهينة لصالح ثلة مقاوِمة محاصَرة لسنوات في قطاع غزة.