بعض التعبيرات نحسب أنها من العامية، فنترفع عن استعمالها في لغتنا الفصيحة، وهي ألفاظ مظلومة، ومتروكة، ومن هذه الألفاظ: القلعاط، والقلعطة، والمقلعط!
قلعط في لسان العرب -مثلًا- اقْلَعَطّ الشعرُ جَعُد كشعر الزّنْج وقيل اقْلَعَطّ واقْلَعَدّ، وهو الشعر الذي لا يطول ولا يكون إِلا مع صلابة الرأْس، وقيل:
فما نُهْنِهْتُ عن سَبْطٍ كَمِيٍّ *** ولا عن مُقْلَعِطِّ الرأْسِ جَعْدِ
وهي القَلْعَطةُ، وأَنشد الأَزهري: بأَتْلع مُقْلَعِطِّ الرأْسِ طاط!
وفي تاج العروس، قريب من هذا، اقْلَعَطَّ الشّعُر أَهْمَلَه، وقال: جَعُدَ وصَلُبَ كشَعرِ الزَّنْجِ كاقْلَعَدَّ والمُقْلَعِطُّ كمطْمَئِنَّ: الهارِبُ الحَاذِرُ النَّافِرُ الخائِفُ نَقَلَه الصّاغَانِيُّ عن ابْنِ عَبّادٍ، وقال ابنُ دُرَيْدٍ: المُقْلَعِطُّ: الرَّأْسُ الشَّدِيدُ الجُعُودَةِ لا يَكادُ يَطُولُ شَعرُه ولا يَكُونُ إِلا مع صَلاَبَةٍ، والاسمُ القَلْعَطَةُ، وهو أَشَدُّ الجُعُودَةِ!
أما في لهجتنا الدارجة فنقول لمن يقرفنا بفلسفته الفارغة، ومداخلاته التافهة: قلعطنا، وما أكثر من يقلعطنا في هذه الأيام، خاصة حين يتحدث هذا المقلعط في شؤون العامة، فيعك عكًّا، والعك في قواميس اللغة: التكرار والرد، بلا فائدة أو إضافة، وهي كلمة فصيحة أيضًا، شأنها شأن القلعطة.
لا أريد هنا أن أقلعطكم، أو أعك، بل هي صرخة، أو أنة توجع أطلقها في وجه كل من يعيد ويزيد، محاولًا التفسير، والشرح، في بدهيات لا تحتاج لإثبات، أو برهان، ومن ذلك كثرة الرغي الذي يدمنه الساسة، وهم يعلمون أن ثلثي كلامهم تكرار وحشو، وهم يعلمون أننا نعلم أن ما يقولون محض ثرثرة فارغة، إذ يكررون تعبيرات نسمعها منذ سنوات، ولا تحمل معنى ولا معزى، ولكنهم لا يملون من الإعادة والزيادة، استمعوا –مثلًا- لأي نشرة أخبار، وحاولوا حصر تلك العبارات المعلبة التي نسمعها منذ سنوات، وستدهشون لحجم التكرار الممل والممض والمقرف!
أما المقلعط في المطلق فهو يذكرني بالرويبضة التافه الذي يتصدى للشأن العام، فيتفلسف علينا ما شاء له التفلسف، مستلهمًا مقولة جوزيف غوبلز وزير الدعاية الألماني في عهد هتلر إبان الحرب العالمية الثانية شعار: "اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس، ثم اكذب ثم اكذب حتى تصدق نفسك"، والغريب أن هؤلاء يصلون فعلًا إلى هذه المرحلة الخطرة من الكذب، فلا يعودون يتذكرون أنهم يكذبون، خاصة أنهم يجدون من المنافقين الرداحين تصفيقًا صفيقًا، فيستحسنون ما يقولون، ويذهبون في تفسير أكاذيبهم مذاهب شتى، وقد يؤلفون الكتب، ويدبجون فيها المقالات!
أما القلعطة الكبرى التي تستفز الحجر فهي هجاء المقاومة المقرن بالحديث عن السلام والمفاوضات والتسوية، هؤلاء المقلعطون يعرفون قبل غيرهم أن الصوت المسموع في هذا العصر وكل العصور هو صوت القوة، ومن لا شوكة له حتى في سياق علاقات الشوارع فهو "الملطة"، وفي كل حارة كان لدينا شخص عرضة للضرب والإهانة، فهو ملطة الحارة، ومن أسف أن تتحول "سلطة" يفترض أنها تمثل شعبًا عريقًا كالشعب الفلسطيني ذا تاريخ مديد بالمقاومة والنضال والنزال، إلى ملطة المنطقة، و"مرمطون" في يد العدو والأخ، القريب والبعيد، وهم قبل غيرهم يعلمون أن طريق العزة والكرامة والكبرياء هو طريق القوة والمقاومة.
والله قلعطونا وهم يهرفون بما يعرفون ولا يعرفون، وفي الوقت الذي يخرجون من دائرة قلعاط السلام الواهم، والتسويات الكذابة، سيمسكون بطرف خيط الحل، حل أزمتهم الداخلية، وحل أزمة شعبهم.
ألم يملوا من لعب دور الملطة؟! أم ينطبق عليهم ما قيل في شأن العبيد الذين إذا أمطرت حرية سارعوا إلى حمل المظلات؟!