قائمة الموقع

أطفال المحررين.. ميلاد جديد أنسى آباءهم مرارة سنوات الأسر

2021-10-18T13:29:00+03:00

 

عندما وضعت الممرضة وليده الأول بين ذراعيه بدا كأنما أمسك العالم بين يديه تغمره السعادة من كل اتجاه؛ يتأمل ملامحه يشتم رائحته ويوزع ابتساماته وهو يضم طفله إليه، ينصت لصوت الحياة في بكائه كمعزوفة موسيقية تغازل قلبه.

قبل ثمانية أعوام انتاب ناهد الفاخوري (44 عامًا) كومة من المشاعر، عاشها أول مرة، ولم يتوقع حدوثها في "أحسن أحلامه"، عندما كان قبلها بعامين أسيرًا تحيط به جدران السجن الرمادية من كل جانب.

اليوم يركب الفاخوري عجلة الحياة في إثر تحرره في صفقة "وفاء الأحرار"، التي حررت بموجبها المقاومة الفلسطينية 1027 أسيرًا وأسيرة فلسطينية، منهم 450 أسيرًا من ذوي الأحكام العالية (المؤبدات).

أمنية النفس في السجن

يقول الأسير المحرر: "موضوع الإنجاب والحياة داخل الأسر لم يأخذ أهمية من تفكيري عندما كنت أسيرًا بسبب واقع وظروف الاعتقال، فالنقطة الأساسية التي تشغل بال أي أسير كيفية الخروج والتحرر من الأسر، أما الزواج والإنجاب فيبقيان أمنية لا تخطر على البال، أو ينظر إليها بعضٌ على أنها مستحيل".

ويضيف وهو يستذكر لحظات السجن: "يتسلل هذا الشعور عنوة إلى أعماق الأسير وهو يرى أبواب السجن موصدة، فيصبح مثل ذلك الحلم بعيد المنال بالنظر إلى المعطيات على الأرض والقيود التي تكبلك"، لكن الشيء الذي رآه فاخوري خيالًا أصبح ممكنًا وحقيقية تهرول في أرجاء المنزل.

كان الاحتلال قد أسر الفاخوري في عام 2002 وحكم عليه بالسجن 22 عامًا أمضى منها تسع سنوات، قبل الإفراج عنه في الصفقة التي رعتها مصر ونفذت في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 2011م.

الفاخوري الذي أبعد عن جذوره الأصلية في مدينة الخليل تزوج في غزة، ورزق أربعة أبناء: عبد الرؤوف (9 أعوام)، وهدى التي طرقت عامها الثامن، ووسيم (6 أعوام)، وأنس الذي لم يجتز عامه الثالث بعد.

وبصوت تغمره الفرحة يضيف: "العائلة علامة فارقة في حياتي بعد سنوات الأسر الطويلة، دخلت في جو أسري جميل تسوده العاطفة الجياشة تجاه الأبناء والعائلة".

من جرب الأسر يدرك أن العاطفة بحكم المعاناة والحرمان السابقين تجاه الأبناء والعائلة تكون مختلفة عن إنسان لم يجرب البعد والسجن، المحرر الفاخوري لمس ذلك، يقول: "فحسب تجربتي تكون العاطفة مضاعفة، والتركيز عليهم يكون أكبر، تغمرك فرحةٌ كبيرة".

غصة البعد عن الأهل

مع ذلك تبقى في قلب الفاخوري غصة البعد عن أهله في الخليل، فآخر مرة تواصل بها مع والده كانت بعد عدوان الاحتلال الإسرائيلي على غزة في تموز (يوليو) 2014م، أما أمه فيمنعها الاحتلال من التواصل معه، ويهددهم بسحب التصاريح في حال أجرت أي مكالمة مع ابنها، ومداهمة البيت، إن جرى أي اتصال، لذا يفضل "ناهد" عدم المجازفة بأي مكالمة هاتفية، لحاجة والديه إلى العلاج في مستشفيات الداخل المحتل.

غصة أخرى تحول دون اكتمال فرحته، هي زملاؤه في الأسر الذين يتواصل معهم ويسألون عن أبنائه، يتحدث: "حينها أشعر بفرق الحياة والعمر وأستذكر اللحظات التي عشتها برفقتهم، أشعر بما يجول في خاطرهم من مشاعر وإن كتموها (...) يكبر أبنائي أمامي يومًا وأصبح أكبرهم في الصف الرابع الابتدائي، على حين لا يزال رفقاء السجن في الغرفة نفسها على الجلسة ذاتها، لا شيء يتغير من حولهم سوى مضي سنوات العمر واشتعال الرأس شيبًا، أتألم عندما يطلبون مني إعطاءهم سماعة الهاتف للحديث مع أبنائي، لأني أدرك أنها تترك في النفس جرحًا كبيرًا".

اليوم بعد 10 سنوات من معانقة الحرية يعيش الفاخوري حياة أكثر اندماجًا، بعد أن أكمل دراسة البكالوريوس وحصل على الماجستير ويسعى للدكتوراة، ويساهم في قضايا وأعمال مجتمعية عديدة.

بين صورتين

ما بين صورة التقطت له ولزميله بالأسر وهما يمسكان بطبقِ أرزٍ كلٌّ من جهته، بدت فيها تعابير وجهٍ باهتة منزوعة الحياة، وأخرى على النقيض تمامًا بدت عيناه فيها تضجان بالحياة وهو يضع طفله الأول (الحسن) على عقيقة بعدما أتم عامه الأول؛ عام أنساه مرارة سنوات السجن العشر.

الأسير أكرم قاسم من مدينة رام الله، حكم عليه بالسجن سبعة وعشرين عامًا قبل أن تكسرها كتائب القسام بتحريره في صفقة "وفاء الأحرار".

تزوج المحرر قاسم بعدما ذاق طعم الحرية، ورزق أربعة أبناء، وهم: الحسن (8 أعوام)، وجود (7 أعوام)، وجنة (6 أعوام)، وعبد الجواد (3 أعوام).

تنصت "فلسطين" لصوت الفرح المنبعث من داخله: "الصفقة هي يوم ميلاد جديد لنا الأسرى، كنا مغيبين قسرًا، كل همنا أن نحيا حياة كريمة في الأسر، إلى أن وفق الله المقاومة بأسر ذلك الجندي الذي مثّل مفتاح خروجنا".

حينما يعود من عمله تركض إليه جنة فاردة ذراعيها كطائرٍ يحلق في سماء الفرح، وهي تلمحه من طرف الشارع، فيجثو على ركبتيه ليضمها كأنما ضم العالم كله، فيرفعها إلى الأعلى، ثم يجد أصغر أطفاله عبد الجواد يتشبث بساقيه يريد تكرار المحاولة، فيحمله، ويمسح بيده رأس الحسن وجود بعد أن يقبلا يده، في مشهد تتجسد فيه الأبوة بأجمل تعابيرها، واللمة الأسرية في أبهى شكلٍ ومنظرٍ كأي أب متشوق إلى العودة من العمل للمنزل.

يقارن قاسم بين حاله في الأسر وحاله بعد تحرره قائلًا: "عندما أنظر إلى أبنائي أتأمل حالي في السجن، فلو بقيت في الأسر أكمل باقي الحكم لما حظيت بهذه النعمة (...) أبنائي أملي في الحياة، نحيا لأجل أن يعيشوا حياة كريمة، فنغرس فيهم حب الوطن، وحب الأقصى وتحريره في القريب العاجل؛ وأن يتعلموا ويخدموا كل ما من شأنه تحرير كل فلسطين".

يقفز إلى لحظة استقبال مولوده الأول: "استشعرت عظمة اسم الله المعطي، الذي إذا أعطى أدهش، فقد أدهشنا الله بالإفراج، وفي تلك اللحظة ارتجت يداي حينما أخذت طفلي بين ذراعي، الفرحة لم تسع قلبي".

اليوم ينخرط قاسم في الحياة، يعمل محاضرًا بكلية الشرطة في وزارة الداخلية والأمن الوطني، يدين بهذه الحياة للمقاومة التي أتاحت للأسرى الاندماج في المجتمع، وتتقاسم معهم سراءهم وضراءهم.

اخبار ذات صلة